أنس القاضي

أنس القاضي / لا ميديا -
في الأيام الأخيــــرة، وتحديـــداً خلال يومي الثلاثاء والأربعاء 2 و3 ديسمبر 2025م، شهدت محافظتا حضرموت والمهرة سلسلة تحولات ميدانية غير مسبوقة، بــــدأت بسيطـــرة قوات جنوبية على مواقع كانت تتبع المنطقة العسكرية الأولى في وادي حضرموت، وبرزت تحركات موازية في المهرة، حيث تسلّمت القوات الجنوبية مواقع عسكرية وأمنية رئيسية بما في ذلك المطار والميناء والقصر الجمهوري، من دون مواجهة تُذكر أو موقف مما تُسمى بـ«الحكومة الشرعية» الفاقدة للاستقلالية.

أولاً: توصيف الحدث وبنية التحوّل الميداني
شهدت محافظتا حضرموت والمهرة خلال الأيام الأخيرة تحولات متسارعة في خرائط السيطرة، اتخذت طابعاً شبيهاً بعملية إعادة انتشار كبرى أكثر من كونها مواجهة عسكرية تقليدية. تمثّل الحدث المركزي في انسحاب قوات المنطقة العسكرية الأولى من مواقعها في وادي حضرموت، ودخول قوات جنوبية تابعة لألوية «العمالقة» والوحدات المنضوية في إطار المنطقة العسكرية الثانية إلى مدينة سيئون والقطن، بما في ذلك القصر الجمهوري وبعض المواقع الحيوية الأخرى. وبالتزامن مع ذلك، برزت أدوار جديدة لما تُسمى «قوات درع الوطن» التي شرعت في استلام مواقع داخل الوادي وفي مناطق أخرى مثل الخشعة والعبر، وهو ما يعطي انطباعاً بوجود ترتيبات تتجاوز حدود الفعل العسكري المباشر.
في الوقت نفسه، ظهرت مواقف متباينة داخل البنية المحلية لحضرموت، خصوصاً من جانب «حلف قبائل حضرموت» بقيادة بن حبريش الذي ركّز بصورة لافتة على حماية حقول النفط، وعبّر بصورة غير مباشرة عن عدم اعتباره سقوط المنطقة الأولى مسألة تستدعي تدخلاً قبلياً. هذا الموقف المتحفّظ اتسق لاحقاً مع اتفاق التهدئة الذي رعته لجنة وساطة حضرمية بإشراف وفد سعودي بقيادة محمد بن عبيد القحطاني (رئيس اللجنة الخاصة باليمن في المملكة)، وتضمّن إعادة تموضع لقوات «الحلف» وقوات «النخبة» حول مناطق شركات النفط ودمج قوات حماية حضرموت في قوة موحدة لحماية الشركات. وهو ما يشير إلى انتقال المشهد من صراع على الأرض إلى إعادة هيكلة أمنية مرتبطة بإدارة الموارد النفطية، وإلى أن «التحييد القبلي» كان جزءاً من ترتيبات أكبر وليس موقفاً عفوياً.
أمّا في المهرة، فقد اتّسمت التحولات بالسلاسة، حيث تسلّمت قوات جنوبية مواقع عسكرية وأمنية رئيسية في المحافظة، بما فيها القصر الجمهوري ومطار الغيضة وميناء نشطون، من دون مواجهات واضحة، كما برزت إشارات إلى انسحاب عناصر عسكرية منتمية للمحافظات الشمالية من المشهد العسكري وبقائهم في الهامش داخل المحافظة، بما يعكس إعادة توزيع دقيقة للنفوذ العسكري.
وتُظهر هذه التحركات المتزامنة في المحافظتين تغيّراً نوعياً في بنية السيطرة بالشرق اليمني، يمزج بين إعادة توزيع النفوذ وتحييد قوى سابقة وإعادة تموضع لقوى محلية وإقليمية، ضمن مسار مترابط على مستوى التوقيت والنتائج.

ثانياً: آليات الفعل الإقليمي وإعادة توزيع النفوذ
تؤكد التطورات أن التحركات الميدانية لا يمكن فصلها عن أدوار الفاعلين الإقليميين، ولا عن احتمالات تقاسم الأدوار بين السعودية والإمارات، فالدخول العسكري لـ«قوات الانتقالي» في وادي حضرموت ومحيط حقول النفط، ثم بدء تسلُّم «قوات درع الوطن» لبعض المواقع، يفتح الباب أمام قراءة تعتبر أن التحرك الميداني ليس مبادرة محلية خالصة، بل حلقة في ترتيبات أمنية أوسع.
من جهة، يمثل تحرك الانتقالي الأداة الأكثر فاعلية لتغيير المعادلات بسرعة على الأرض بحكم بنيته العسكرية المتماسكة. ومن جهة أخرى، تمثل مشاركة «درع الوطن» آلية سعودية لضبط الإيقاع الأمني ومنع تشكل نفوذ أحادي، خصوصاً مع حساسية حضرموت والمهرة للمملكة من حيث الحدود والموانئ والموارد.
وفي السياق ذاته، يظهر دور بن حبريش والحلف القبلي الموالي للسعودية كمكوّن يتم إدماجه في معادلة جديدة لا تُقصيه بالكامل بل تعيد تعريف وظيفته في حماية الشركات النفطية ضمن بنية أمنية موحّدة، وهو ما يمنح المشهد طابعاً «هندسيّاً» أكثر منه صدامياً.
وتشير هذه المعطيات إلى أن ما يجري في الشرق ليس نتاج صدامات منفلتة، بل جزء من هندسة (أمنية -سياسية) تُعاد صياغتها تدريجياً، بما يضمن انتقال السيطرة من دون تفجير شامل، ويُبقي مساحات المناورة مفتوحة أمام الفاعلين الإقليميين.

ثالثاً: التحولات في بنية القوى المحلية وموقع حزب الإصلاح
يمثّل سقوط المنطقة العسكرية الأولى، من حيث رمزيته ووظيفته، تحولاً عميقاً في موقع حزب الإصلاح (فرع جماعة الإخوان في اليمن) داخل معادلة السلطة في الشرق اليمني. فالمنطقة الأولى شكّلت، لسنوات، أحد أهم تموضعات القوى المرتبطة بالإصلاح والجيش الموحّد السابق، وكانت بمثابة رأس جسر (عسكري -سياسي) يُمكّن الحزب من حضور وازن في حضرموت.
تفكيك هذه البنية، سواء عبر الانسحاب الطوعي أو الانسحاب تحت ضغط التحولات، يضع الإصلاح أمام إعادة تعريف قسرية لأدواره، ويُقلّص نفوذه في مناطق اعتبرت خلال سنوات الحرب العدوانية على اليمن جزءاً من منظومته الأمنية والسياسية. وقد تتعزّز هذه القراءة بالنظر إلى أن حركة القوات الجنوبية امتدت إلى مناطق أخرى مثل شبوة والمهرة حيث لا يزال للإخوان فيها حضور نسبي، ما يوحي بأن الحدث لا ينحصر في نطاق جغرافي واحد.
وفي ضوء هذه التطورات، قد يتعرض الإصلاح لسلسلة من الاختبارات الاستراتيجية، أبرزها: 
1 - كيفية المحافظة على حضوره في مأرب وتعز في ظل تحول البيئة الإقليمية والمحلية.
2 - مدى قدرته على بناء شبكات تحالف جديدة داخل المعسكر المعادي لصنعاء.
3 - احتمالات انزياحه نحو الهامش السياسي والعسكري إذا استمرت عملية إعادة تشكيل الشرق وفق هذا النسق.
تلك التحولات لا تقتصر على الإصلاح بوصفه حزباً سياسياً، بل تشمل إعادة توزيع مراكز الثقل داخل المعسكر المناوئ لصنعاء، بما يعيد ترسيم أدوار الانتقالي وطارق صالح وقوى محلية أخرى كـ«درع الوطن» و«العمالقة» في الجنوب والشرق والساحل.

رابعاً: الإطار التحليلي المرتبط بالاستراتيجيات الدولية والتقاطعات الأمريكية
تأتي التطورات في الشرق اليمني ضمن سياق إقليمي ودولي يُعاد فيه النظر في مقاربات إدارة الملف اليمني، وخصوصاً بعد تراجع فاعلية الأدوات العسكرية التقليدية خلال ثمان سنوات من الحرب على صنعاء وعامين من العدوان الأمريكي البريطاني الصهيوني على خلفية معركة «طوفان الأقصى» (أكتوبر 2023م -أكتوبر 2025م). وقد ظهرت خلال الفترة الماضية مقاربات فكرية وسياسية في مراكز بحث أمريكية تتناول اليمن من زاوية إعادة هيكلة السلطة، وإعادة توزيع النفوذ، وتفكيك البنى العسكرية والسياسية التي تُعد معيقة -بحسب تلك الطروحات- لأي صيغة «استقرار» قادم (نشر الكاتب تحليلاً لها في صحيفة «لا» بتاريخ 10 أغسطس 2025 بعنوان: الاستراتيجية الأمريكية البديل للعدوان على اليمن).
وتبرز كتابات الكاتب الأمريكي مايكل روبين مثالاً على هذا الاتجاه؛ فهي تتحدث عن:
- التخلص من بنية حزب الإصلاح (الإخوان) داخل مواقع القرار.
- تمكين «القوى الجنوبية» من إدارة مواردها بصورة منفصلة.
- الدفع نحو صيغ فيدرالية غير مركزية.
- إعادة تعريف سلطة المركز عبر هياكل متعددة الرؤوس.
- ضمان وجود شريط جغرافي -سياسي «مستقر» جنوباً وشرقاً يمكن أن يشكّل توازناً مع نفوذ صنعاء.
لا يمكن الجزم بأن ما يجري هو تنفيذ مباشر لهذه الأطروحات، غير أن التقاطعات الزمنية والميدانية بين التحركات الأخيرة ومنظومة الأفكار هذه تفتح الباب أمام تحليل يرى أن الشرق اليمني يتحول، تدريجياً، إلى مختبر لإعادة صياغة المشهد السياسي، حيث يتم ربط السيطرة بالأمن الاقتصادي (النفط، الموانئ، المعابر الحدودية)، وربط الأمن الاقتصادي بإعادة تشكيل الفاعلين المحليين ليصبحوا جزءاً من منظومة ترتيبات أوسع.
هذا الربط لا يُفهم بالضرورة بوصفه تنفيذ مباشر، بل بوصفه تلاقي مصالح وتوجهات بين قوى داخلية (الانتقالي) وإقليمية ودولية (الإمارات والسعودية وأمريكا) ترى أن المرحلة تقتضي هندسة جديدة للنفوذ في الشرق اليمني، بعيداً عن البنى القديمة التي مثلتها المنطقة العسكرية الأولى.

خامساً: الانعكاسات على بنية الصراع الوطني اليمني
تفتح هذه التحولات الباب أمام جملة من التغيرات العميقة في بنية الصراع على المستوى الوطني:
1 - إعادة تعريف الجنوب كفضاء متعدد القوى: قد يؤدي تزايد حضور الانتقالي في الشرق إلى إعادة فتح نقاشات داخلية جنوبية حول آليات إدارة المناطق والموارد. ومن شأن ذلك أن يعكس حالة تعقيد داخل المشروع الجنوبي، لا سيما إذا استمرت حالة التداخل بين القوى المحلية والإقليمية في إدارة الملفات الحساسة.
2 - انتقال مركز الثقل في الصراع نحو الشرق: قد تتحول حضرموت والمهرة، بتعقيداتهما القبلية والاقتصادية والجغرافية، إلى مجال جديد للصراع أو التفاوض، تبعاً لمدى قدرة الأطراف على استيعاب التحولات. فإعادة تشكيل السيطرة في الشرق تمنح المنطقة وزناً جديداً في المعادلة الوطنية يتجاوز إطارها الجغرافي.
3 - توسيع فجوة الشرعية داخل معسكر المناوئين لصنعاء: انكشاف التحالفات القديمة، وتحولات موازين القوى، قد يعيد فتح النقاش داخل هذا المعسكر حول طبيعة «الشرعية» القائمة وسبل تمثيلها، فإخراج الإصلاح من مساحات نفوذ واسعة قد يعيد تعريف موقعه داخل هرم ما يسمى بـ«مجلس القيادة الرئاسي، والحكومة الشرعية»، ويفتح الباب أمام إعادة توزيع الحصص السياسية لصالح الانتقالي وطارق صالح والعليمي.
4 - انعكاسات محتملة على مسار الصراع مع صنعاء قد تؤدي التحولات إلى تأثيرات مزدوجة: التحولات الجارية داخل معسكر المناوئين لصنعاء -سواء عبر إضعاف بعض القوى التقليدية (مثل الإصلاح والمنطقة العسكرية الأولى)، أو عبر تمكين قوى بديلة (كالانتقالي ودرع الوطن)- قد تؤدي، في بعض المناطق، إلى حالة من التجانس النسبي داخل هذا المعسكر، بعد أن كان موزعاً بين أطراف متعددة ومتعارضة داخلياً، لكنه تماسك ناتج عن تقليص عدد اللاعبين، وليس عن بناء جبهة موحدة. كما أنّ تفكيك البنى القديمة في الشرق -من هياكل عسكرية وسياسية- قد يفتح مساحات جديدة لإعادة توجيه الخطاب السياسي من جانب صنعاء تجاه مكونات حضرموت والمهرة. فغياب الفاعلين السابقين، أو تراجع أدوارهم، يخلق فراغاً في التمثيل داخل هذه المناطق، ويمنح فرصة أمام مقاربات أكثر مرونة في مخاطبة القوى القبلية والاجتماعية والاقتصادية، استناداً إلى تحولات المشهد لا إلى اصطفافاته القديمة.

سادساً: دور سلطنة عُمان في مشهد المهرة
التحولات في المهرة لا يمكن قراءتها دون استحضار البعد العُماني، نظراً إلى:
- الارتباط الجغرافي والقبلي والاجتماعي.
- حساسية مسقط تجاه أي تهديد محتمل لأمنها الحدودي.
- علاقاتها العميقة مع المجتمع المحلي المهري.
ورغم أن الدور العُماني لم يظهر في المشهد الميداني الأخير، إلا أن غيابه الظاهري لا يعني غياباً فعلياً؛ فكل إعادة تموضع في المهرة تحتاج إلى حسابات دقيقة تراعي ردود فعل مسقط، التي تميل تاريخياً إلى دعم التوازنات المحلية وعدم السماح بتمدد نفوذ خارجي منفلت ولسلطنة عُمان حساسية تجاه الإمارات والسعودية.

تقدير الموقف العام
تشكّل التطورات الأخيرة في حضرموت والمهرة منعطفاً مهماً في مسار الصراع في اليمن، وتكشف عن عملية إعادة تشكيل عميقة للشرق اليمني على المستويين الأمني والسياسي. ويبدو أن التحركات لا تنفصل عن تحركات إقليمية ودولية أوسع تبحث عن مقاربة جديدة للملف اليمني، بعد إخفاق الأدوات العسكرية التقليدية في تحقيق أهدافها السابقة.
ومع أن موازين القوى المحلية الراهنة تظهر تغيراً لصالح الانتقالي والإمارات، فإن النتائج النهائية ما تزال رهينة التفاعلات المتبادلة بين الداخل والإقليم، ورهينة قدرة الأطراف المحلية (الانتقالي، بن حبريش، درع الوطن، الحريزي) على إدارة التعقيدات الجديدة التي فرضتها إعادة الانتشار في الشرق. ومن غير المستبعد أن تتحول هذه المرحلة إلى حلقة انتقالية نحو ترتيبات سياسية وأمنية مختلفة، قد تشمل إعادة تعريف السلطة في الجنوب، وإعادة رسم موقع القوى التقليدية (داخل مجلس القيادة وحكومة عدن ذاتها)، وإعادة تشكيل نقاط التماس بين الفاعلين المحليين والفاعلين الإقليميين.
بهذا المعنى، تبدو حضرموت والمهرة ليس فقط مسرحاً لتحولات ميدانية، بل مختبراً لإعادة صياغة المشهد اليمني القادم، بما يتجاوز البعد الجغرافي ليمسّ بنية الصراع وتوازناته على مستوى البلاد.

أترك تعليقاً

التعليقات