صحة ودواء وسوق سوداء
 

شرف حجر

شرف حجر / لا ميديا -
منذ ثلاثة عقود وأكثر لم يستجد أي تغيير في ملف القطاع الصحي،  سوى تعاقب وتبديل الوزراء والقيادات العليا، الذين يحققون الثراء الشخصي لأنفسهم فترة عملهم.  ففي عاصمة الدولة (صنعاء) مستشفيات الثورة والكويت والجمهوري والسبعين  أطلال خرسانية شاهدة  على أجيال مرضى تئن وتموت! وحدات صحية  شاهد على غياب الدولة، وقطيعة مسؤولية، وجفاء قيادات غائبة عن احتياجات  المجتمع، منشآت لم تقيّم ولم تُدرس احتياجات  تطويرها بما يواكب التوسع والنمو السكاني، إلى أن  وصل بها الحال  إلى عدم القدرة على استيعاب العدد المحتاج للرعاية الطبية، عدا استقبالاً شكلياً يتمثل ببعض الأَسرّة، هذا إن وجِدت وكان هناك فراغ أو نتيجة وساطة في ازدحام يزيد من تدهور  نفسية القاصد للمنشأة الصحية بُغية الاستطباب غير الموجود.
عند زيارة أحد المستشفيات في أمانة العاصمة يشعر المرء بِغُمة، لتعاسة ما يراه من حالة الناس المؤلمة، إذ يلاحظ الزائر أن الكادر الطبي من الممرضين والممرضات وغيرهم مضغوط نفسياً نتيجة التراكمات الحاصلة.
الصحة خدمة سيادية تتحمل مسؤوليتها الدولة وملزمة بتقديمها كدولة تجاه الشعب. ومن قِلة الحظ لم يَسبق أن رُزِق اليمن بوزير صحة يمتلك خطة واضحة ورؤية جلية لبناء حقيقي وإحداث ثورة فعلية لانتشال المنشآت الطبية والصحية الخدمية بالشكل الذي يلبي احتياجات المواطنين.
قد يُعلق البعض بأن نظرة كاتب المقال سوداوية. نعم، أرى المشكلة بسواد أكبر مما أكتبهُ، نتيجة لما هو حاصل على أرض الواقع. وعلى من يريد الحصول على إجابة واضحة زيارة أحد المستشفيات الحكومية في أمانة العاصمة وأن يتوقف في أوساط الناس ويتأمل المعاناة في وجوههم ومرارة الآلام في صورهم. نعم، نحن في عدوان، وسلام الله على الجيش واللجان الشعبية والقوة الصاروخية والطيران المسير... إلخ. نعم، تراكمات سابقة. نعم، شحة موارد... لكن كل هذا لا يمنع تحقيق معالجات ممكنة وإمكانية التحرك في الاتجاه الصحيح وبما هو متاح.

المستشفيات الحكومية
قبل أي شيء ولكي لا تضيع في زحمة الناس، يجب أن تبحث عن شخص معروف يتوسط لك. تريد إجراء أشعة، تحاليل، أو أي فحوصات، كلها موجودة أمام المستشفى، أما داخل المستشفى فلن تجدها، لأن المستشفى متعثر وغير قادر على تأمين هذه الخدمات، بل إن أبسط شيء، مثل القطن والشاش للمجارحة وحقنة وفراشة للمغذية، لن تجدها داخل المستشفى، ويكون لزاماً على المريض شراؤها من خارج المستشفى.

الكادر الطبي
من باب الصدفة يكون تواجد الأخصائيين، بالذات في الساعات الليلية.
وفي حال تواجد أحدهم في داومه فكيف ستصل إليه؟! هذا إذا لم يكن يصلي أو يتعشى أو مشغولاً بينما هو مغلق على نفسه داخل مكتبه، والبعض منهم يحيلون الحالات إلى العيادات الخاصة، والعمليات مقاولة في المستشفيات الخاصة.

أمراض مزمنة وحالات طارئة
بعض الأمراض الخطيرة والمزمنة (عافانا وعافاكم الله)، مثل الأورام والفشل الكلوي وأمراض القلب والسكري وغيرهما، وهي أمراض بحاجة لأدوية دائمة، بينما المواطن البسيط: مدرس، عامل نظافة، جندي، سائق تاكسي، قائمة طويلة من غالبية اليمنيين الذين يحبون وطناً كلهُ جفاء وقسوة، هل من الدين والعقل والمسؤولية أن تترك هذا الفئات من الناس ولا يتحمل أحد المسؤولية تجاههم؟!
والمفارقة هنا هي لو أن أحد هؤلاء البسطاء أصيب بأزمة قلبية طارئة، من أين يحصل على قيمة دعامات ويتدبر بالمليون تكاليف علاجية؟! وبالتالي فإن ذلك يعني موته المؤكد، بينما المسؤول الفلاني يتم التنسيق والترتيب له ويدخل مركز القلب وتحضر الدعامات لحضرته مجاناً. نحن لا نعترض على علاجه (شفاه الله)، لكن، وبصراحة، من المستحق منهما، ذلك المواطن البسيط الذي لا يمتلك ما يبيعه لإنقاذ نفسه من الموت، أم المسؤول القادر على أن يتعالج وعلى حسابه الخاص في أي مكان في العالم؟!
مثال آخر: مولود في بداية الشهر الثامن، مطلوب دخوله الحضانة 23 يوما. حضانات المستشفيات الحكومية ممتلئة بحالات مشابهة، وفي المستشفى الخاص موجود مكان، لكن الليلة الواحدة بخمسين ألف ريال، يعني أن يدفع الأب مليوناً ومائة وخمسين ألفاً مقابل حضانة مولوده لمدة 23 يوماً، بخلاف قيمة الأدوية والعلاجات والخدمات الأخرى! كارثة مخيفة لا يدركها الكثيرون إلا عند المرور بتجربة مشابهة! كفى الله الجميع كل هَم. 

مستشفيات تعليمية!
بعض إدارات المنشآت الطبية تتحجج بعدم وجود موازنات لها، وتتخذها فرصة لفتح أبواب عياداتها أمام منتسبي الكليات الطبية للتدريب العملي على زوارها من المرضى، "وهات يا تعلام في خلق الله!".

الأخطاء الطبية 
الأخطاء الطبية هي جرائم ترتكب بكل سهولة وبدون رقيب أو حسيب. امرأة تموت بسبب عملية نقل دم من فصيلة مخالفة لفصيلتها. كسر في ساق طفلة ويتم الإسعاف وتركيب العظم فوق العظم المكسور بدلاً من تجبير الكسر وتوصيل العظم ببعضه، وبعد أسبوع وعمل كشافة، يرد الطبيب الكارثة: "مش مشكلة، بانستدعي اثنين زملاء وندخل الطفلة تحت الأشعة ونقرح الساق ونعيد التجبير"... هكذا وكأن طفلة في السابعة من العمر صنم حجري لن تشعر بشيء وستتقبل أن يتم كسر ساقها لتصحيح الخطأ، ولم يقل "المشلح" حتى أنهُ سيقوم بتخدير الطفلة! حالة ولادة زادت كمية البنج المخدر فتسبب بوفاة الأم! وغيرها الكثير من القصص المأساوية.
أتعرفون ما هو المخيف؟! هو أن إدارة المنشآت الطبية تتحول في مثل هكذا حوادث إلى عصابات، ويتم "كلفتة" القضايا وتضييعها، وحين تشتكي للمجلس الطبي، تجده المجلس المحابي للمجرم ضد الضحية، صديق المستشفى الخاص، ولا يتم حتى فتح تحقيق حقيقي، هذا في حال تم مجاملة المشتكي والكذب عليه باتخاذ الإجراءات التي لا يتم اتخاذها أصلاً، وبكل نرجسية يردد البعض مقولة أن "الأطباء ملائكة الرحمة". مع ذلك، ومن أجل الإنصاف، نعم، هناك قِلة قليلة فعلاً ملائكة رحمة، بينما الغالبية وحوش.

تحول القطاع الصحي إلى استثمار بيد القطاع الخاص 
معك "زلط"، ما لم فالموت وسوق سوداء للخدمة الصحية في ظل غياب مسؤولية الدولة من الرقابة المستمرة والتقييم ومتابعة مستوى الأداء والجودة ونوعية الخدمة ومطابقة المنشآت للمواصفات المطلوبة ومقدار التكلفة للعمليات والمعالجات والفحوصات... مريض إسعاف قالوا لديه التهاب في الزائدة، وضروري عملية لاستئصالها بتكلفة 120 ألف ريال، بعد ساعة انفجرت الزائدة والمريض قد دخل مش داري المرافق إيش حاصل خلف الزجاج العازل، مضطر خوفاً للقبول، وترتفع التكاليف أجور جراحة إلى 250 ألفاً ويتبع علاجات و... و... و... لتختم التكلفة ما بين 500-600 ألف ريال.

الصيدليات في المستشفيات
سوق حرة كما في المطارات. هل تعلم أو تتابع أو تتولى الجهات المعنية ضبط أسعار الأدوية في صيدليات المستشفيات؟! من المواقف: دكتور يصرف علاجاً لطفل، يتم النزول للصيدلية، يطلع الصيدلي على رشدة العلاج ويسأل عن عمر المريض، فيرد عليه المرافق: خمسة أعوام، ليرد الصيدلي: هذا العلاج عيوقف قلب الطفل ارجعوا للدكتور...!!

سوق الأدوية
تهريب وغش وتلاعب ومافيا لا تختلف في نشاطها وظلامية عملها عن تجارة الممنوعات والأسلحة والنفط و... و... و... إلخ، والجهات المعنية في عالم آخر و"في فلك يَسبحون" لا يُسبحون! أدوية مهربة عبر الصحراء والسواحل تنتهي صلاحية كثير من الأصناف بسبب تغير في درجة الحرارة أو التخزين، من سيحاسبهم أو يتكلم؟! بل وصلت الجرأة إلى حد الطلب من المصنعين تخفيض التركيبات الدوائية بغرض زيادة الأرباح، وتدخل هذه الأدوية البلد ويتم بيعها والمواطن لا يستطيع أن يحتج أو يصرخ ويقول: يا دولتاه! اتقوا الله وتحملوا مسؤوليتكم! بل قد نجد الكثير لا يلاحظ ما يحصل بسبب ما هو حاصل أصلاً.
استيراد أدوية من أحواش في دول آسيا ذات مستوى تقييم رابع وخامس، بينما هناك بدائل وأصناف من دول أخرى وبجودة أفضل مليون مرة وأسعار مقاربة، ولكن التاجر يريد أن يسوق للتوكيل الذي تحت ملكيته، والناس تتجرع غصباً، لأن الدولة مدعممة.
هل سمعنا أن الجهات المعنية نفذت حملات لضبط جودة الدواء في الصيدليات وفي مخازن التجار، وكيف دخلت، وهل تم فحص مستوى مطابقتها للجودة الدوائية والأسعار وإخضاعها للتحليل والرقابة الدائمة، وما هو مخالف يتلف، بل ويمنع دخوله من المنافذ إلى البلد ويعاقب ويغرم التاجر المستورد، ومحاسبة كل من يتواطأ في هكذا جرائم؟!

المنظمات
نَسمع رعوداً بدون مطر، حيث نقرأ ونشاهد ونسمع عن ورش واجتماعات وغيرها من فعاليات المنظمات في صالات فنادق فاخرة وتغطيات إعلامية باهرة، ولكن ما هي النتائج؟! لا ندري، فقط تصرف مئات الآلاف من الدولارات على هذه الورش والاجتماعات وإذا بالمساعدات ليست سوى وسائل تنظيم الأسرة.
حملات تلقيح للمنازل طوال السنة وتمويل ومصاريف نزول فرق ميدانية، ما هو الهدف؟! وبماذا يحقنون الأطفال؟! لا أحد يدري، أهم شيء صرف النفقات التشغيلية. وحين نسمع أن منظمة الصحة العالمية قدمت عشرات الملايين من الدولارات كدعم في جانب ما، يبرر مسؤولونا بأن المنظمات نفسها تستولي على ثلثي الدعم المرصود، طيب، لماذا تقبلونها؟! لماذا تقبلون وسائل تحديد النسل مثلاً؟! قدموا طلبات دوائية حقيقية كمحاليل الغسيل الكلوي، أدوية السرطان، دعامات القلب، فهناك ألف طريقة وطريقة لفرض الاحتياج على المانحين مع قطع الطريق على من يقولون إن هذه الأموال يتم توظيفها للمجهود الحربي.

تشجيع الدولة للاستثمار في الإنتاج الدوائي والخدمات الصحية
ماذا يعني الأمن القومي لأي بلد؟ لا أعني الجانب المخابراتي، أقصد الأمن القومي الصحي والغذائي والفكري والثقافي... إلخ، أليس المفهوم هو حضور الدولة كمتحكم وإدارة لزمام الأمور اقتصادياً وقومياً بما يحقق الاستقرار والسكينة العامة؟ أم أننا لم نستوعب ولا نريد الاستيعاب، وأن يكون العمل والتوجه لتكون يد الدولة هي الطولى والمتحكمة بزمام الأمور؟! أين الدولة إذن؟! سيسلم كل شيء للوبيات القطاع الخاص، ففي السابق تمت تصفية المؤسسة العامة للتجارة الخارجية بكل البنية التحتية (مطاحن، أفران مركزية، منشآت...) لصالح تجار. بيع أصول دولة لمصلحة من؟!
أيضاً، الجمعية الاستهلاكية ماذا كان نشاطها؟! لصالح من صُفيت الشركة اليمنية للأدوية؟! ولماذا تم بيع مئات التوكيلات العالمية؟! وما تبقى من شركة الأدوية؟! لماذا لا يعود للعمل واستعادة الدور الوطني لتصنيع الأدوية ولو بصورة معقولة؟! ألسنا قادرين على إنتاج شراب للسعال أو إعادة منتج حبوب البرامول؟! وما نجده لما يسمى مصانع أدوية هي حبوب المنشطات المسببة للجلطات لا غير! وما يثير الاستغراب هو تلك الفرحة في وجوه مسؤولي الدولة بما يسمى "شراكة مع القطاع الخاص"! التاجر لا يبحث إلا عن مصلحته، ولا يحمل في أجندته تقديم خدمات غير مدفوعة للمواطن. يجب على التاجر أن يدفع ما عليه من رسوم سيادية (ضرائب وجمارك وزكاة) ويلتزم بالنظام والقانون والجودة، والدولة غنية عن تبرعاتهم، فمتى سنتحرك في الاتجاه الصحيح؟!
قبل أسبوع ورشة عمل طويلة عريضة تحت اسم "التيقظ الدوائي"، يا رحيم ارحم! والصحة تدعو الشركات للرفع بأسماء مرشحيها لتدريبهم! إذا كان المقصود هو الرقابة الدوائية، فهل من العقل أن الشركة الخاصة ستُخضع نفسها للرقابة الذاتية، بينما المعروف أن الرقابة من مسؤولية مؤسسات الدولة؟!
هل يوجد رقم خدمي لطلب خدمة الإسعاف الطبي في بلادنا؟!
رحم الله الرئيس الشهيد صالح الصماد، القائل: "نريد دولة للشعب، وليس شعباً للدولة".

أترك تعليقاً

التعليقات