شُبَّابَة
 

عبده سعيد قاسم

 إن أسرفت في الكتابة عن القرية، وحملت مهاجلها وأغانيها على ظهر قلبي، وسافرت في تفاصيلها الراسخة في الذاكرة، فتلك بديهيات عشقي لها وغرامي بصباحاتها الندية وأصائلها الزاخرة بأمواج الغيوم وإيقاع المطر المتساقط على أكف الشجر الممتدة في الأفق لتصافحه بحميمية الشوق وشغف المحبة النابعة من أرومة التراب المتحفز للعطاء السخي وتعميق وشائج الحياة بين الأرض والإنسان..
 كل تفصيل دقيق في حياة القرية راسخ في ذهني كحكاية جميلة لا حدود لتفاصيلها الخرافية، ترافق أيامي أينما قذفتني أعاصير الحياة في المدن القاسية الجافة وفي كل مكان حل بي المقام.
 كلما استفرد بي جنون الحياة، وحاصرتني السنوات المثخنة بخيبات العمر، أخلع عن نفسي الشعور بالوجع، وأثبِّت في يمين وشمال الروح جناحين من وهج الحنين الى سفوحها ورباها، وأحلق في أجواء القرية كطائر عاد من رحلة عذاب البحث عما يقيم الأود، الى عشه العامر بدفء المواويل وبهجة الأغاني، أصغي لوقع الريح ورنين المهاجل المنسابة من شفاه النساء كشلالات من الضوء، تغسل الروح بوهجها الشجني المجيد. 
أحدق في وجه فتاة خرجت من بيتها بكامل زينتها البسيطة الخلابة، وفي يدها (الشريم)، تتجه الى الحقل بجموح الصبا المشرئب لبلوغ المراد.. تلقي السلام بابتسامة تذوب من وهجها الكائنات، ويستحيل الشريم بيدها كمنجة تعزف بها لحن الارتباط المقدس بالأرض، وأغاني الإصرار على استيلاد الحياة من رحم التراب.. تزيل الحشائش العالقة على الأغصان والمحاجين، ليأتي موسم الحصاد نقياً مثل قلبها المتشح بالعشق القروي الطاهر من شوائب الابتذال، جزيلاً مثل بذلها السخي المتواتر الذي لا يكل ولا يهدأ رغم اختلاف الفصول وتبدل المواسم.. 
إنها القرية، صباح زاخر بهديل الطيور، وضحى فواح بعبق المشاقر وضحكات الصبايا عند حواف بئر الماء، وأصائل صاخبة بحمحمة الرعود والتماع البروق وأغاني الرعاة عند الرواح.
 إنها القرية الواقفة في ناصية الذاكرة، لم تمحها سنوات البعد وأزمنة الغياب.

أترك تعليقاً

التعليقات