شُبَّابَة
 

عبده سعيد قاسم

كلما اقترب موعد إصدار هذه الصحيفة (لا)، أحتار في اختيار الموضوع الذي يجب أن أكتبه في هذا العمود وتحت هذا العنوان (شبّابة).
بل أشعر بالإحباط لأنني لست ممن يعشقون الكتابة في السياسة، ولا تحليل الوقائع واستشراف النتائج، أو تحديد مآلات ما يجري، ولا أملك مقدرة تفسير حركات ملامح وقسمات وجوه السياسيين عندما يتحدثون ويكذبون على أنفسهم وعلى الناس. 
إنني إنسان لم يستطع حتى الآن التحرر من مشاعر الطفولة التي نمت وترعرعت في مناخات القرى، واكتسبت تضاريس المواسم وأشواق الفلاح لدنو موسم الحصاد، وغبطته وسعادته وهو يرى السنابل والثمار تنمو وتتفتح مع شروق كل صباح.
إنني إنسان تسكنه الأغاني، وتستوطن قلبه وتطربه مهاجل الفلاحين، في صباحات القرى الفواحة بشذا التراب ورائحة الشذاب والكاذي التي توزعها رياح البكور على الجهات الأربع، بسخاء وكرم جزيل.
إنني وحتى هذه المرحلة من العمر، وحين أرتدي ملابسي، وقبل الذهاب إلى الدوام، أقف أمام المرآة مغمض العين، وأحلم أنني أقف أمام جدران البيوت المهردة بخيوط شروق الشمس المتدلية من الأفق كخيوط ذهبية تبشر ببدء يوم جديد وحياة أجدّ.
هكذا اكتسبت ما استطعت اكتسابه من قدرات الكتابة من معاجم الرياح وقواميس الرعود حين تصهل فوق هضاب الأصائل، توحي للزرع والدوالي بالاستعداد لاستقبال السحائب الماطرة، وتوشوش في مسامع الحقول الظامئة ألا تقنط من جود الرحمن وكرمه بالغيث الجزيل. 
صحيح أنني غادرت القرية قبل ثلاثة عقود ونيف، ولكنها لم تغادرني، ولم تمَّحِ تفاصيلها من الذاكرة اللعينة التي تشبه حجر الصوان الذي يحتفظ بالنقوش والخدوش قروناً، ولا تمحها عوامل التعرية.
إنني أجد نفسي ممتلئ الروح، مكتمل العشق، حين أكتب عن القرية، وأشعر بإيقاع طروب يضبط خفقات هذا القلب على إيقاع همهمة فلاحة شابة ذهبت قبل شروق الشمس تجمع الحشائش المبللة بالطل من شواجب الحقل ومن (المعاقص) الترابية الفاصلة بين تلم وتلم. وهي بذلك تفسح حيزاً لسيقان أعواد الذرة لتنمو وتشرب من ماء الأمطار ما يكفها.
إنها القرية.. قصص وحكايات لا حدود لتفاصيلها، ولا حدود لشغفي العارم بها.

أترك تعليقاً

التعليقات