شبابة
 

عبده سعيد قاسم

في وجدان القرى تاريخ زاخر بالأغاني الرائعة التي أبدعها فنانون، أنبتتهم الذائقة الريفية المتأصلة في حنايا الأرض، والمحتفية بمواسم المطر ومواقيت البذار وآونة الحصاد. أتكلم هنا عن مناطق شرعب التي استمدت مهاجلها وأغانيها وتراثها الفني من جبال وحقول العدين الخصيبة التي يعتبرها بعض الباحثين الثالثة بعد حضرموت ولحج في إنتاج الأغاني والمهاجل الزراعية، فمنها نبغت الفنانة الشعبية الراحلة منى علي، والفنانة نعائم بنت شريان (التي بصوتها النسائي المكتنز دفء المواسم وموسيقى المطر، صدحت بأجمل الأغاني، وقال عنها الفنان العظيم أيوب طارش عبسي إنها تمتلك صوتاً يخلب الألباب، فهي غنت معه في بداية مشواره الفني الممتد بامتداد خارطة الوطن)، شخصياً سمعت بعض أغانيها التي لاتزال عالقة في الذاكرة من سن الطفولة وبدء الشباب: 
شمس الغروب واني أسألك بأيوب
لا تغربيش عاد القليب مكروب 
بالله عليك يا شمس لا تغيبي
إبقي قليل لما يجي حبيبي 
ما أحلى شروق الضوء في خدودك
يا فاتني لا حرمتني وجودك
يا مِرّة القهوة وهي محوّجْ 
لما أعلموني أن الحبيب تزوج 
غنت للأعراس والأعياد، واتقدت في ليالي العاشقين شجناً ونغماً شهياً، وكانت أغانيها زوادة الرعيان في الشعاب، ومبعث نشاط الفلاح حين يغرز سنة المحراث في رحم التراب، ويبذر فيه معاني الحياة.
مثلها أيضاً تدفق صوت المغنية الشعبية (حُسن قاسم قائد) بأغاني الصراب وزغاريد الأعراس، وابتدعت خواطر شعرية من موهبتها. 
فعندما قام عامل شرعب في أواخر الخمسينيات، الشيخ عبدالله عثمان، بحبس والدها، ذهبت إليه تترجاه أن يطلق سراحه، فأبى، ولم تجد حيلة لإقناعه ليطلق سراحه، فذهبت إلى باب منزله أثناء مقيله، ونقرت على الدف، وغنت:
يسقيك يا التربة يا خشم رمان
ياللي تربى بك عبدالله عثمان
فسمعها واستحسن القول والأداء، وأطلق والدها.
لم تجف منابع الفن الريفي الجميل، ولم تزحه موجات الفنون الغنائية القادمة من صخب المدن وضجيج الآلات الموسيقية العصرية، فقد ظل عازف المزمار المبدع الفنان سعيد حزام وزوجته الراحلة لول قاسم قائد هما أيقونة الأعراس وشبابة الأعياد وأغاريد الطرب التي تضفي البهجة على القلوب، وتضبط نبضات الأفئدة على إيقاع أقدامهما الراقصة بالرقصة الشهيرة (دلال)، ومعهما تتمايل الرؤوس والأفئدة، وترقص الكائنات. 
عندما احتاج الفنان أيوب طارش عبسي أن يغني للزراع وللحقول، ذهب يطوف القرى ومعه عاشق الطين وشبابة المواسم الشاعر عثمان أبو ماهر، وذهبا يستدران حليب الإبداع من نهود الربى وشفاه الرعاة، واستمعا معاً لعبدالله خالد حسن ويحيى مهدي في بني وهبان، وسجلاهما وهما يشدوان بمعينة الزراع وأغاني المتالم. 
هلا يالله يا رازق الطير
هلاااا معييين 
هلا ترزق تخارج من النير 
سلمه وسلم سلمه وسلم
سلمه وسلم دخن أرضي طعم
سلمه يسلم داخل المتلم 
كمِّن مليح أحوم 
يصرب ويتهمهم...
استلهمها الشاعر أبو ماهر، وأعاد صياغتها بروح تتقد طرباً بسيمفونية الماء حين تعزفه السواقي أناشيد سماوية للحقول الواعدة بالمحصول الوفير، وبفرحة الفلاح وهو يتأهب لاستقبال المواسم الماطرة.

أترك تعليقاً

التعليقات