محافظة إب سلة الغذاء وشبابة الفن
 

عبده سعيد قاسم

إب ليست سلة غذاء اليمن وبيدرها الجزيل فقط، بل هي كذلك شبابة اليمن وصوتها الغناء العذب الجميل، فهي التي أنجبت الأصوات الغنائية النسائية من وقت مبكر، وأثرت الذائقة الوطنية بأجمل الأغاني، وتدفقت منها شلالات الأغاني الزراعية ومهاجل الصراب وملالاة الرعاة في المروج والشعاب الخضيرة. 
فمجتمعها مجتمع زراعي إنتاجي تدور عجلة الإنتاج فيه بجهد المرأة والرجل على السواء، والنساء فيه يفهمن لغة الحقول ولهجة المواسم وإيماءات أوان الحصاد، لذلك تحتل المرأة موقعها الفاعل في المجتمع الإنتاجي والزراعي، وتناجي الزرع والثمار بصوت غنائي عالٍ، وتستعين بترديد المهاجل على إنجاز عملها اليومي في الحقل، وتطورت تلك السمة الاجتماعية الإنتاجية لتتجسد في أصوات غنائية انحازت للفن، غير مهملة أو متناسية للغة الزرع وملالاة الصباحات الريفية المنقوشة بحبيبات الطل البراقة فوق أجفان الدوالي.  
فمن مديرية العدين نبغت الفنانة الراحلة منى علي، ورقصت على صبابة صوتها الجميل ملايين القلوب في ليالي الأعراس وأمسيات العشق المتقدة بالشجن وصباحات الأعياد المتشحة بأضواء الفرح، ورافقت بصوتها الفلاح وهو خلف ضمد أثواره يشق بالمحراث تراب الحقل ويستودع فيه البذور وهي تعبر عنه بملالاة بديعة: 
يالله رضاك والشمس إلى عيوني 
أينه حبيب قلبي لا تحرموني 
كتعبير عن الفلاح وهو يستقبل شروق الشمس في موسم البذر أو في أوان الحصاد، وقلبه مشغول أيضاً بالاستعلام عن مكان الحبيب المفارق.
وكما تغسل سائلة عنة أقدام الجبال برحيق الأصائل المطيرة، غسلت الفنانة منى علي برحيق صوتها الشهي المصفى صدأ الأرواح وأدران القلوب، وملأت الدنيا بزغاريد الأفراح وأغاني العشق المتقد في حنايا البيوت. 
كذلك صدح صوت الفنانة صباح عطيبا بمهاجل الزراعة وأغاني الوجد وتشريقة الشقاة عند الظهيرة في مداميك البناء وشواجب الحقول المفعمة بخضرة الزرع وسنابل القمح اليانعة، وغنت للحبيب المهاجر: 
ساروا عدن وفلتوا الغواني
واني من الجملة وذا بياني 
وجايلتهما ومن إب أيضاً الفنانة فائزة عبدالله بصوتها المشبوب بالحزن والتباريح المضنية، وعرجت بالقلوب والأرواح في معاريج وتجليات الإبداع في فضاء فني زاخر بجمال ممتد بامتداد خارطة الوطن، وأثملت الأفئدة العاشقة بنبيذ صوتها الاستثنائي المتبتل في محاريب الفن والشجن، وغنت: 
تعز تعز خضراء والغيل سراح 
بقدرة الله نجتمع ونرتاح 
جبل صبر عالي وانا طلعته 
طبع الحبيب حالي وانا عرفته 
إن ما دفعني للكتابة عن هؤلاء الفنانات هو الخوف على مرحلة فنية ومحورية من تاريخ الفن اليمني، وبالذات الذي سطرت ملاحمه الأسطورية فنانات يكاد النسيان أن يبتلع إبداعهن، ويكاد الضياع أن يطويهن ويطوي معهن لإنتاجهن الذي يمثل جزءاً مهماً من مسيرة الوطن الفنية الباذخة العطاء والإبداع النقي من صخب التقليد وشوائب ابتذال الأداء المنمق بمظاهر الحداثة المستقدم من خارج الحدود 
إن الغناء هو فن يصبح فاقد القيمة والمعنى إذا لم يحمل سمات وملامح مكان وزمان ولادته، ويتكئ على نبضات القلوب العامرة بحب التراب وعشق الجمال. إن التقليد لا يجد طريقاً الى قلب المستمع، ولا يحرك شغاف الروح مهما اشتد صخبه وضج به صوت المؤدي. إن للفن النابع من مسامات التراب العابق برائحة المطر المتساقط من شفاه السحاب جدائل من ضحكات البروق وبريق الماء لتشرب من فيضه أرحام التراب، فتتكون في حنايا الحقول أجنة الخير، وتولد منها السنابل المكتنزة أسرار استمرار الحياة وسيرورتها المستمدة من وحي السماء الماطرة.  
لم أعطِ الفنانات اللاتي ذكرت أسماءهن بعاليه حقهن نتيجة تواريهن من الساحة الفنية لأسباب لست أعلمها، لكني أعتبر هذا التواري والانقطاع ناتجاً عن عدم احتفاء الجهات الرسمية بإبداعهن، وكذلك ناتجاً عن ضمور في الذائقة الفنية الجمعية أصابها جراء زحف الفن السفري المسلوق على نيران الجلبة والضوضاء، وتوافر وسائل نشر هذه الأغاني القادمة من كباريهات الفن الحديث المعتمد على الحركات الجسدية المبتذلة لفنانات كباريهات عصر العولمة.  
وللحديث بقية

أترك تعليقاً

التعليقات