تحديق في مرايا التاريخ
 

عبده سعيد قاسم

عبده سعيد قاسم / لا ميديا -
ما الذي ستكتبه، أيها الرعوي القادم من غبار القرى، عن تعز التي كادت تصاب بالعمى بعد أن حدقتْ كثيراً في مرايا التاريخ متمنية أن ترى بعضاً من ملامح وجهها في المشاهد المتتالية في مسرح السلطات الحاكمة من زمن غابر ولم ترَ غير أساها؟!
رغم أنها ضخت نيلاً من الدم إلى جسد السلطات المتعاقبة وانسكبت كسيل من الضوء والمعرفة في أوردة وشرايين مختلف محافظات اليمن شمالاً وجنوباً شرقاً وغرباً، إلا أنها ظلت في نظر مشائخ السلطة مجرد “أخدام” و”أبناء تعز” على حد تعبير الشيخ عبدالله الأحمر في مذكراته.
لم تستطع هذه المحافظة المصابة بلعنة الثقافة والحلم أن تفسح لنفسها حيزاً في خضم تعاقب سلطات يحتكم قادتها لمفاهيم المناطقية والنزعات العنصرية المقززة الكامنة تحت عمائم مشائخ الفيد والعنجهية والانتقاص من الآخر بناء على لهجته وطريقة كلامه ومنطقة مولده ونوعية ملابسه وتشذيب لحيته وتسريحة شعر رأسه.
“فلان محترم رغم أنه من تعز”، كلمة تافهة سمعتها كثيراً، وبالتأكيد سمعها كثيرون غيري، حتى الذين استوزرتهم السلطات في كثير من المراحل لم يكن لتعز حضور من خلالهم، وظلوا بنظر أنفسهم وبنظر السلطات وبنظر تعز أيضاً مجرد كتبة وموظفين يأتمرون بأمر الحاكم.
وأظن -وكثير من الظن إثم- أن الفوضى السائدة اليوم في مدينة تعز شرقها وغربها وقراها، هو احتجاج سلبي أهوج راكمه الشعور الجمعي بمرارة الظلم والإقصاء والتغييب الممنهج الذي مارسته السلطات على مدى عقود، إن لم يكن على مدى قرون من الدهر.
حتى عندما اتخذها الإمام عاصمة لحكمه لم تجد نفسها عاصمة تمتلك القرار أو تستشار به على الأقل؛ ولكنها ظلت في نظر الإمام، وفي نظر أركان حكمه، مجرد خيمة للنزوح من تآمر أبناء عمه الذين قتلوا والده الإمام يحيى.
ومن فوضى شيوخ القبائل المحيطة بصنعاء ونهمهم للمال وتطلعهم المستمر للصعود إلى السلطة، أين ستجد نفسها هذه المحافظة الصبية الشمطاء؟!
حكم عبدالفتاح إسماعيل الجنوب وتولى كثير من أبنائها مناصب وزارية وقادوا مؤسسات سيادية، ولم تكن حاضرة من خلالهم إلا بترديد الهتافات الثورية والنشيد الحماسي، وترديد مقولات ماركس وإنجلز وتكريس الحلم بالوحدة اليمنية، وحين قامت الوحدة فتشطروا وتمزقوا.
شارك الكثير من أبنائها في ثورة الـ26 من سبتمبر وأطعموها أعمارهم وأفئدتهم، وأشبعوا الربى والسفوح والجبال قتالاً في الدفاع عنها، فأشبعتهم قتلاً وسحلاً وسجناً وتعذيباً ونفياً.
قد يقول القارئ إنني أحتج على المناطقية بنزعة مناطقية مماثلة! لا، ورب العرش ما كتبت إلا ما أراه ترجمة لمعطيات يضخها الماضي إلى واقع اليوم.
ولله الأمر من قبل ومن بعد.

أترك تعليقاً

التعليقات