سامي عطا

د. سامي عطا / لا ميديا -

لعله من البديهي أن قرار الرئيس ترامب برفع السرية عن مراسلات وزيرة الخارجية السابقة ومنافسته للانتخابات الرئاسية في الدورة السابقة، يأتي في سياق حاجة ترامب إليها كحاجة انتخابية ضد المرشح الديمقراطي المنافس له في الانتخابات القادمة، خصوصاً أن مؤشرات استطلاعات الرأي أكدت تفوق بايدن عليه بعد المناظرة الأخيرة، ولهذا فإن رفع السرية عن هـذه المراسـلات أراد ترامب وإدارته الانتخابية توظيفها كأداة انتخابية تسهم في إحداث اختراق وقلب تأخر ترامب إلى تقدم، وخصوصاً أن الانتخابات باتت قريبة جداً.
ومن ينظر إلى الرسائل التي تم الكشف عنها كلها ذات منحى واحد وقليلة بالمقارنة مع العدد الكلي المعلن عنه (35.500 رسالة تقريباً)، وانصبت جميعها في اتجاه إظهار دور الحزب الديمقراطي في التعامل مع "الربيع العربي"، وتصوير "الربيع العربي" كمؤامرة نسجت خيوطها بين الحزب الديمقراطي وحركة الإخوان المسلمين، وبغض النظر عن صحة ذلك، لكن هذا التصوير يراد من ورائه أمران:
أولاً: الانتقاص من الفعل الجماهيري والدفاع عن طريقة المعالجات الفوقية التي تمت في إجهاض التغيير الجماهيري وشرعنة الانقلابات التي حدثت في المنطقة سواء في مصر أو ليبيا أو سوريا، وشرعنة الحرب على اليمن، باعتبار أن ما جرى من مؤامرة نسج خيوطها الحزب الديمقراطي باتفاق مع حركة الإخوان، يعود الفضل في إجهاضها إلى إدارة ترامب مع حلفائه في المنطقة (الإمارات والمملكة)، ويمـكــــــــن مـلاحظــــة أن إعلام الإمارات والمملكة يشتغل في هذا السياق، وهو الهجوم على حركة الإخوان وقطر وتركيا وتصويرهم شياطين "الربيع العربي" (كلمة حق يراد بها باطل)، والباطل هنا سلب الجماهير حقها في التغيير، وكأن أوضاع ما قبل "الربيع العربي" كانت زاهية، والناس يعيشون في بحبوحة العيش، وأن ما حدث ليس إلا مؤامرة كواليس بين الحزب الديمقراطي وحركة الإخوان، وهذا سنجده من خلال تسريبات رسائل هيلاري كلينتون وتوكل كرمان، مع أن ما تضمنته ليس جديداً أو مفاجئاً بخصوص التمويل الأمريكي لمنظمات المجتمع المدني والشخصيات الفاعلة في المجتمعات العربية، ومن يتذكر قضية الدكتور سعد الدين إبراهيم، رئيس مركز ابن خلدون في جمهورية مصر العربية، قبل عقدين من الزمن، ومحاكمته المشهورة في عهد مبارك حول التمويل الأمريكي للمركز.
ثانياً: تريد الولايات المتحدة الأمريكية من وراء سياساتها القائمة إنجاز فوضاها الخلاقة التي قامت على استراتيجيتين:
الأولى: رفع غطائها عن أنظمة الحكم السابقة لـ"الربيع العربي" التي وصلت مرحلة الشيخوخة وباتت عاجزة عن فعل شيء مع محور المقاومة الذي أخذ يتنامى منذ ما بعد حرب تموز 2006م، بينما أنظمة الحكم الحليفة لأمريكا باتت عاجزة ومشلولة وتعاني من أزمات داخلية كثيرة لولا الغطاء الخارجي لها.
الثانية: أرادت الولايات المتحدة، ومن خلال الفوضى الخلاقة، أن تحدث تغييراً لأنظمة الحكم بالجماهير المسحوقة، ولكنها في الوقت نفسه قيدت التغيير بعدم الخروج عن سياقات الترتيبات الفوقية واتفاقات الكواليس، خصوصاً أنها قد نسجت خيوطاً مع نخبه منذ وقت مبكر، وأفسدتهم بالأموال والعلاقات الشخصية.
ومن يطابق بين الرسائل المسربة ويعود بالذاكرة إلى وقائع إرهاصات ثورة الشباب وخصوصا شهر يناير 2011م، يجد أن هيلاري كلينتون التقت بتوكل كرمان في 7 يناير 2011م، ومن ثم نظمت مظاهرة إثر سقوط الرئيس التونسي في 14 يناير 2011م، وتم اعتقالها مع زوجها في 23 يناير 2011م واودعت سجن النساء وتم إخراجها على ما يبدو بضغوط أمريكية، ولها منشور قبل يومين على صفحتها في "فيسبوك" ـ  وتحديداً في تاريخ 20 أكتوبر 2020م ـ تتحدث فيه عن لقائها بعد خروجها من الاعتقال مع السفير الأمريكي ونائبته (*)، ودور الأمريكيين في الثورة اليمنية، والذين يبدو أنهم أرادوا احتواء الثورة وأن يتم إدارتها من الغرف المغلقة وتوظيفها بحيث لا تتحول إلى ثورة حقيقية، وفي 25 يناير اندلعت ثورة مصر، وواصلت التحشيد بعد ذلك، ونصبت لها خيمة أمام بوابة الجامعة بعد أن رفض نظام علي صالح نصبها في التحرير.
ومن يتذكر الشعارات المرفوعة قبل "جمعة الكرامة" 21 مارس 2011م، كان البارز فيها "الشعب يريد إسقاط النظام"، ومنذ ذلك تغير الشعار والهتافات في الساحات إلى "إرحل.. إرحل.. إرحل"، وهذا الشعار اختزال لمشكلة البلد بشخص علي عبدالله صالح وحماية لبقية نظامه الذين انضموا للساحات، ويبدو أنها كانت تدار من خلف الكواليس وبغرض إفراغ الثورة من محتواها، وتوظيف الغليان الشعبي في الحفاظ على مصالح الولايات المتحدة وأعوانهم المحليين، ولقد كانت الولايات المتحدة تتوجس من ثورات "الربيع العربي" أن تكوّن شعبية جماهيرية على غرار ما حدث في إيران.
ولذا سعت منذ وقت مبكر أن تؤسس لنخب تقود منظمات مجتمع مدني، وقدمت لها الدعم المادي تستبق فيه ثورات وتستطيع من خلالها التحكم والسيطرة، ومن يلاحظ نعت الغليان الشعبي في البلاد العربية بـ"الربيع العربي" لم يكن بريئاً، بل كان عملا يصب في خانة احتواء الغليان والسيطرة عليه، والحيلولة دون بلوغه مرحلة الثورة، وبقائه ضمن استراتيجية الفوضى الخلاقة التي وضعتها منذ وقت مبكر، فلقد احتاجت الولايات المتحدة إلى تفكيك النظام العربي الذي بات عاجزا أمام محور المقاومة، خصوصا بعد حرب تموز 2006م، وذلك من أجل حماية "إسرائيل"، واحتواء الثورات بالقدر الذي كان رغبة أمريكية، فإنها تلاقت مع رغبة أنظمة البترودولار في المنطقة، وذلك خوفا من انتقال رياح التغيير إلى داخل هذه الممالك والدول التي تمثل مصالح أمريكا والغرب الاستراتيجية، والحيلولة دون قيام أنظمة وطنية وإجراء استباقي كي لا يتكرر مشهد طهران 1979م.
وعليه فإن أسباب النشر واضحة مما أسلفت، وفي الأخير هو يكرس أيضاً في وعي الناس قلة الحيلة، ويواصل توطيد وهم أن أمريكا عالية القدرة وهي التي تدير اللعبة و"ما فيش فائدة يا صفية دفيني"، أي قطع الطريق أمام أية ثورة مستقبلية، والتسليم بقضاء أمريكا وقدرها.

أترك تعليقاً

التعليقات