محمد محمد السادة

السفير محمد محمد السادة / لا ميديا -

عُرف اليمن على مر العصور باسم «اليمن السعيد»، نظراً لتراكم ثقافة السلام والتسامح، وسُمي «مقبرة الغزاة» كونه عصياً أمام أي غزو أجنبي، كما سماه الأتراك «مقبرة الأناضول»، فقد كانوا الأكثر من حيث الخسائر البشرية بالنسبة لأية قوة غازية حاولت احتلال اليمن، فالوثائق التركية الرسمية تُشير إلى أن 300 ألف جندي وضابط وقائد من جيش الدولة العثمانية قتلوا في اليمن، ولذا لا غرابة أن مقابرهم منتشرة على طول المناطق الشمالية والغربية والوسطى لليمن. ولا نُجانب الصواب إذا قُلنا إن هزيمة الأتراك في اليمن كانت مُقدمة لتفكُّك وانهيار الدولة العثمانية التي استنزفت جزءاً كبيراً من قدراتها في اليمن. وقد لخص تلك التجربة المريرة رئيس الجمهورية التركية الثانية، عصمت أونونو، الذي كان قائد حامية في اليمن، حيث أشار وزير الخارجية العراقي الأسبق، عدنان الباجة جي، في لقاء تلفزيوني، إلى أنه التقى ذات مرة بالرئيس أنونو في إحدى المناسبات، وعند الحديث عن اليمن قال أنونو مخاطباً الوزير العراقي: «عبدالناصر ارتكب خطأ كبيراً بالذهاب إلى اليمن»، مُضيفاً: «لقد حاربت جميع الأقوام، من إنجليز، صرب، يونان، روس... ولكن مثل اليمنيين محاربين أشداء لم أر في حياتي».

في 18 نوفمبر/ تشرين الثاني الفائت نشرت صحيفة «يني شفق» التركية مقالا لياسين أقطاي، مستشار الرئيس التركي، بعنوان «نظرة تركيا إلى اليمن في ضوء تجربتها في ليبيا وأذربيجان والصومال»، حيث يُشيد بدور بلاده في الدول التي تدخلت فيها، محاولاً إسقاط ذلك الدور على اليمن، ثم ينتقل لمهاجمة ما يُسمى «عاصفة الحزم» التي كانت بلاده على علم مُسبق بها، بل وقدمت الدعم للرياض، ليتضح لأنقرة فيما بعد عدم صوابية موقفها ودعمها لتحالف العدوان على اليمن. وينتقد أقطاي فشل التحالف السعودي ـ الإماراتي في اليمن، وسياسته في إضعاف اليمن التي تقوم على التعامل مع جميع الأطراف اليمنية كأعداء، وعدم تمكينهم من التحاور فيما بينهم، ويقول بأن السبيل الوحيد لتحقيق الاستقرار في اليمن هو الاعتراف بكافة شرائح الشعب اليمني، وفتح الطريق أمام حوار من شأنه أن يجلب السلام. ولكن أقطاي ختم مقاله بتعصب فج، وتناقض نسف كل ما طرحه عن السلام في اليمن، قائلاً: «إن النظر إلى حزب الإصلاح في اليمن على أنه عدو يعني القضاء على جميع الشرائح في اليمن، وجلب شعب آخر من الخارج».
اختزال أقطاي لجميع شرائح الشعب اليمني في حزب جلب لنفسه العداء، وبارك العدوان على اليمن، ينُم عن جهل وإساءة للشعب اليمني، وللعلاقات اليمنية ـ التركية، ويُعبر هذا الطرح عن ثقافة أقطاي الإقصائية، وهي ذاتها ثقافة حزب الإصلاح، الذي يدعي تمثيل اليمن والدفاع عنه، في حين يبيع كوادره للخارج في صفقات مشبوهة، فكان الأجدر به وهو يتلقى هزائم فيما تبقى من الجبهات لاسيما في مأرب الاحتفاظ بمُقاتليه للدفاع عما يدعيه، بدلاً من إرسالهم إلى ليبيا كمرتزقة لتركيا! كما تقوم قياداته بنهب أموال الشعب اليمني المُتحصلة من عائدات النفط والغاز وتُهربها للخارج، فقد تمكنت قيادات حزب الإصلاح من وضع اليمن في المرتبة التاسعة بين الدول الأكثر شراء للعقارات في تركيا بشراء أكثر من 2200 عقار، وتأسيس 164 شركة حتى نهاية العام 2019، وفق تقرير معهد الإحصاء التركي، حيث نال المسؤولون في حزب الإصلاح الحصة الأكبر من تلك الاستثمارات.
ويأتي ذلك المقال (مقال أقطاي) في إطار توجه تركي إعلامي وسياسي مُستفز تجاه اليمن، ويرتبط بالفتور الحاصل في علاقات أنقرة بالرياض وأبوظبي، مستثمراً ورقة حزب الإصلاح، المُصنف كجماعة إرهابية من قبل النظامين السعودي والإماراتي، رغم أنه تصنيف مؤقت يستجيب لدواعٍ مرحلية بالنسبة للسعودية، فعلاقة الإصلاح بالنظام السعودي لا تنفك، ومهما بلغت علاقته بتركيا فإنها تظل ثانوية أمام علاقته بحاضنه التاريخي (النظام السعودي) الذي يعتبر الحزب ركيزة رئيسة لنفوذه في اليمن. ورغم محاولات الإعلام التركي تهيئة الرأي العام الداخلي لنوع من التدخل في اليمن. إلا أن من الصعب على الشعب التركي تقبُّل تكرار التجربة المريرة لجيشه، التي لاتزال حاضرة في ذاكرته، وترثيها أغاني التراث التركي.

إعادة ضبط السياسة الخارجية التركية تجاه اليمن
طموحات أردوغان التوسعية المرتبطة بالماضي العثماني تدفع به للتدخل في الشؤون الداخلية للدول، فسوريا مثال حي لعدوان تركي ينتهك السيادة ويرتكب الجرائم بحق أبناء الشعب السوري العزيز، فقد أصبحت السياسة الخارجية التركية -وفقاً للتقرير الصادر عن مفوضية الاتحاد الأوروبي في أكتوبر/ تشرين الأول 2020- تتسم بالعدائية بشكل متزايد، ما يُهدد السلم والاستقرار في المنطقة، ولذا فقد صوت البرلمان الأوروبي في 26 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري على اتخاذ عقوبات ضد تركيا رداً على سياساتها العدائية تجاه قبرص واليونان، بالإضافة للتوتر الذي طرأ مؤخرا على علاقاتها بألمانيا وفرنسا.
مثل هذا السياسة التركية يُمكن أن تقضي على طموحات وفرص أنقرة في الانضمام للاتحاد الأوروبي. كما أن وصول إدارة الرئيس الأمريكي بايدن إلى البيت الأبيض تحمل مخاوف تركية من إمكانية العودة لاستثمار الورقة الكردية أمريكياً ضد أنقرة، ولذا فإن مثل هذه المؤشرات تقتضي إحجام أردوغان عن كل الملفات التي توسع فيها إقليمياً، وعودة تركيا لسياسة «تصفير المشاكل»، عبر تحسين علاقاتها مع جميع جيرانها، وإنهاء صراعاتها التاريخية، عندها يُمكن أن نرى تركيا ترسم حدودها البحرية مع اليونان القريبة بدلًا من ذهابها إلى ليبيا.
إن انتقال تركيا من دور شركة أمنية مصدرة للمرتزقة، أو دور إنساني مشبوه جنوب اليمن عبر حزب الإصلاح إلى دور سياسي فاعل يُسهم في إحلال السلام في اليمن بحاجة للتحرر من عقلية أقطاي المتعصبة، وتوسيع مجال الرؤية التركية لتتضح حقيقة المشهد اليمني، فالسياسة الخارجية التركية تجاه اليمن بحاجة إلى إعادة تقييم وضبط مُحدداتها، بحيث تكون عقلانية لا أيديولوجية، وتنطلق من اعتبارات المصالح القومية التركية، واعتبارات هامة مثل تجربتها السابقة في اليمن، وتقييم تجربة الفشل والاستنزاف لتحالف العدوان على اليمن، وموقف دول تحالف العدوان من أي تدخل تركي، بالإضافة لضرورة إدراك أن حزب الإصلاح ماركة سعودية مُسجلة. كما يرزح الرئيس المنتهية ولايتهُ (هادي) وما يُسمى «الحكومة الشرعية» و»المجلس الانتقالي» تحت الوصاية الجبرية للنظامين السعودي والإماراتي، فيما تبقى صنعاء الطرف الأكثر حضوراً وتعبيراً عن تطلعات الشعب اليمني للسلام.
النجاحات التي يُمكن أن تكون تحققت من وجهة نظر تركيا في ليبيا أو قطر أو غيرهما، لا ينبغي أن تكون مقياس أو حافزاً لمغامرة في اليمن، فالمعطيات السابقة، بالإضافة لوجود مساعٍ أممية لإحلال السلام، لا تؤهل تركيا لأي نوع من التدخل في اليمن، لاسيما عسكرياً، كما تقترح التوجه نحو صنعاء كخيار براغماتي مُتاح، وأقصر الطرق لأي توجه سياسي تركي لتحقيق مصالح مشتركة، من خلال المساهمة في إحلال السلام في اليمن، فصنعاء ودماء الشهداء لن تقبل بغير إسقاط الوصاية والهيمنة الأمريكية على اليمن والمنطقة، فهذا التوجه الثوري أحد القواسم المشتركة مع أنقرة، ويُمكن أن يكون مدخلاً لتفاهمات، لاسيما أن المنطقة مُقبلة على مرحلة مفصلية سمتُها الرئيسية قيادة العدو الصهيوني لمحور التطبيع واستهداف الدول الرافضة للهيمنة والوصاية بأساليب أبسطها الحرب الباردة.
ختاماً: ما لم يستطع حزب الإصلاح تحقيقه بمعية عدوان دولي عريض ضم أكثر من 15 دولة، لن يكون بمقدوره تحقيقه عبر محاولاته توريط تركيا. كما أن محاولات إطالة أمد العدوان، أو جعل اليمن ساحة لتصفية الحسابات، مرفوض ومُدان، ولن يُحقق مصالح لتركيا أو حزب الإصلاح. إضافةٍ إلى ذلك فاعتراف تركيا بخطأ سياستها الداعمة للعدوان على اليمن يتطلب تصويب تلك السياسة وليس تكرارها، فالمكانة الإقليمية لتركيا تنأى عن حضور مشبوه في اليمن يُزاحم الفشل السعودي ـ الإماراتي، أو جعل تركيا مطية لحزب يخسر مصالحه وحضوره في اليمن، ناهيك عن ضمان مصالح لغيره، لذا فطرق الأبواب الداعمة لإنهاء العدوان والحصار وإحلال السلام في اليمن من شأنه تهيئة المناخ لتحقيق مصالح مشتركة للبلدين في ظل الأمن والاستقرار الضامن لتلك المصالح، فهذا هو التوجه الأمثل لتركيا، كما يُمكن للتاريخ أن يُعيد نفسه في اليمن إذا ما شاء أردوغان، ولكن هل سيتورط أردوغان في اليمن ويُلدغ من جُحر مرتين؟!

أترك تعليقاً

التعليقات