«الزمن الجميل».. هـــل كـــان جميــــلاً حقـــاً؟! الحلقة 63
- مروان ناصح الأربعاء , 10 ديـسـمـبـر , 2025 الساعة 12:08:49 AM
- 0 تعليقات

مروان ناصح / لا ميديا -
المقصف الجامعي.. جمهورية الحوارات الساخنة والعيون المترصدة
لم يكن المقصف في الجامعة مجرّد مكان تُشرب فيه القهوة، ويُشبع فيه الجوع، كان مكانًا لا يُشبه شيئًا آخر، جمهورية مصغّرة فيها زوايا للكلام، وزوايا للتجسس، وزوايا للكتابة السرية، وزوايا للعشاق الخائفين من العيون..
وكان كل شيء فيه يقول: هنا يحدث ما لا يُقال في القاعات.
الدخول إلى المقصف..
دخول إلى المشهد
كنا نخطو إليه كما يدخل الممثل إلى الخشبة: نتلفت، نختار الطاولة بعناية، ونعرف أن جلوسنا قرب طاولة معينة قد يعني "انتماء" ما.
كان لكل جماعة طاولتها، ولكل طاولة لهجتها، ومجرد جلوسك في مكان ما قد يضعك في خانة لا تدري بها.
بعضهم يجلس ليُسمع، وبعضهم يجلس ليَسمع، وبعضهم يراقب الجميع.. ولا يتكلم.
نقاشات تبدأ بقضية وتنتهي بصوت مرتفع
في المقصف، كانت السياسة حاضرة أكثر من الكتب.
تشتعل معركة حول فلسطين، أو حول الدولة، أو حول الاشتراكية والإسلام السياسي، وتُرمى كلمات مثل "البرجوازية"، "الأحزاب العميلة"، "الدولة العميقة"، "النهضة"، "التحرير"، "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة". ونحن لا نملك منها إلا بعض الفهم، والكثير من الحماسة.
نختلف، نصيح، نغضب، نتصالح.. ثم نعود غدًا لنتشاجر من جديد.. كأن المقصف ليس مكانًا للراحة، بل مختبرًا للانفعال.
وجوه مألوفة.. وأخرى مشبوهة
كان بيننا من يدوّن في عقله كل ما يُقال.
كان "المخبر" شبحًا لا يُرى، لكن يُشتمّ حضوره في الصمت المفاجئ، أو النظرات المريبة.
وكان بعضهم نشطًا باسم "حزب" السلطة، يحاور، يجادل، يسأل أسئلة بريئة بنبرة غير بريئة، فيما كان آخرون من أحزاب أخرى، يوزّعون منشورات، أو يحضّرون لوقفة احتجاجية..
وكان الجميع يعرف أن المقصف ليس بريئًا.. لكنه ضروري.
فاصل بين المحاضرتين.. ومسافة بين الوهم والواقع
كنا نترك قاعات الدراسة ونأتي إلى هنا بحثًا عن "الواقع".
هناك نتلقى المعرفة، وهنا نحاول أن نفهمها، أو نكسرها، أو نعيد خلقها.
المقصف كان مساحة لتكوين الرأي، واختبار الموقف، وكان بعضنا يدخل ليشرب الشاي، ويخرج وهو عضو في تنظيم لا يعرف كيف سيخرج منه لاحقًا.
ومن المقصف.. إلى الساحة
أحيانًا، لا ينتهي الكلام عند الطاولة.
بل يُرفع الصوت، تُجمع الأسماء، ويُتفق على "تجمهر"، أو "وقفة"، أو "تجمع صامت".
وكانت عيون الإدارة تراقب، وعيون المخبرين تُسجّل، لكنّ قلوبنا لم تكن تخاف.. كنا نحمل أوهامًا عظيمة، وكنا نؤمن أننا نصنع فرْقا.
المقصف كما نراه اليوم
اليوم، المقصف صامت.. طاولاته نظيفة، الكراسي مرتبة، والأحاديث أقرب إلى السطح.
لا شعارات، لا كتيبات، لا جلسات فكرية، ولا جدالات عقائدية.
صار مكانًا للاستراحة.. لا للصراع.
وقد يقول البعض إن هذا أفضل.. لكنّ من عاش زمن المقصف القديم، يعرف أنه كان أكثر من طعام ومشروبات.. كان مكانًا نضجت فيه شخصيات، وانهارت فيه أقنعة، وتكوّن فيه وعي.. حتى وإن شابته العثرات.
خاتمة
في "الزمن الجميل"، لم يكن المقصف الجامعي مكانًا عابرًا بين قاعتين، بل كان ساحةً مصغرة لصراع الأفكار، ومسرحًا للتعبير والاختلاف.
كان مكانًا نكتشف فيه من نحن.. وبماذا نؤمن.. ومع من نقف.
واليوم، ونحن ننظر إلى المقاصف النظيفة الخالية من الجدل، قد نشعر بالراحة، لكننا نشتاق، لا لضجيجها فحسب، بل لذلك الشغف الذي كان فينا، لتلك الأيام التي كنا نُخطئ فيها كثيرًا، لكننا كنا نحاول أن نفهم.. لا أن نُقلد.
فهل من عودة إليها؟ لا.
لكننا نحتاج أن نستعيد تلك الروح.. في مكان آخر، أو زمن آخر، أو.. في دواخلنا..!!










المصدر مروان ناصح
زيارة جميع مقالات: مروان ناصح