مروان ناصح

مروان ناصح / لا ميديا -
الشعر .. حين كان الناس يحفظونه كما يحفظون أسماءهم
في الزمن الجميل، كان الشعر خبزاً روحياً، وسلاحاً معنوياً ، وذكرى جماعية تحفظها الألسن قبل الدواوين .
كان الشاعر يستقبل كالمبشر ، ويودع كالعاشق .

الشعر في الوجدان لا على الرفوف
لم يكن الشعر في "الزمن الجميل " مجرد "نصوص"، بل كان موقفاً، ولغة وجدان، وبوابة للفهم .
كان المواطن العربي، حتى لو لم يذهب إلى المدرسة ، يحفظ بيتين للمتنبي ، ويستشهد بأشعار نزار ويغني "الأطلال" دون أن يعرف أن وراءها قصيدة كاملة .
لم يكن الشعر عابراً، بل مركزيا .
يلقى في الخطب، ويُعلق في المدارس، ويُقرأ في الإذاعة ويُدرس لا بوصفه "مادة"، بل لكونه جزءا من الهوية .

الشعراء.. نجوم الوعي لا النجومية
كان الشاعر في "الزمن الجميل" هو "ضمير المرحلة"، من محمود درويش الذي قال: "سجل أنا عربي"، إلى أمل دنقل الذي صاح: "لا تصالح"، إلى نزار الذي مس

القلوب بالحب والسياسة معاً .... لم يكونوا نساكا في أبراج اللغة، بل فاعلين في الحقل العام وأصواتا لما لا يقال في السياسة والمجتمع .
كانت أمسياتهم تملأ القاعات . وكان الناس يسافرون الحضور قصيدة .

الشعر والإذاعة... عصر الذهب الصوتي
كان الشعر يُذاع، يُغنى، يمسرح ... وكانت برامج مثل "شعراء العصر" و "دوحة الشعر" تعيد للقصيدة حضوراً شعبياً .
صوت الشاعر كان له وقع. وكان للقصيدة جمهور ينتظرها كما ينتظر الحلقة الدرامية .
حتى الأغنية لم تكن بلا شعر : فما غنته أم كلثوم، وعبد الحليم ، وفيروز ... كان في معظمه قصائد مشذبة، تعيد الشعر إلى الوجدان الشعبي بصوت عذب .

ماذا جرى بعد ذلك ؟
مع التسعينيات وما بعدها، بدأ الشعر ينزوي أمام المد السردي ،وتراجع موقعه في الإعلام، وفي المناهج، وفي المزاج العام.
تغيرت الذائقة. لم يعد الناس يبحثون عن بيت شعر ، بل عن صورة، أو نكتة ، أو تعليق سريع .
انكمشت مساحة الإصغاء، وتمددت ثقافة اللحظة، والمقتطف ، والتسويق .
دخل الشعر في أروقة الجامعات ، وأصبح في بعض الأحيان أكثر تنظيراً من التأثير، وأقرب إلى القاعات المغلقة منه إلى الساحات .

الشعر اليوم... ما بين المتنبي والـ "إنستابويتري"
في مقابل التراجع ، ظهرت على وسائل التواصل موجات جديدة من الشعراء، ما يعرف أحياناً بـ " الإنستابويتري" أو "الشعر السريع"، الذي يراهن على البساطة، الانتشار، والتأثير اللحظي .
بعضهم جاد وحي؛ لكن كثيراً منهم يغرق الشعر في "الخواطر " ، أو يفرغه من الإيقاع والرؤية.
صارت القصيدة أحيانا مجرد تنسيق خط على خلفية جميلة .

هل مات الشعر ؟!
لا الشعر لا يموت؛ لكنه يتخفى ، يتحوّل، ويبحث عمن يحييه .
ما يزال هناك شعراء يكتبون بعمق، ويجتهدون ليعيدوا للشعر مكانته؛ لكنهم يصارعون عالما سريعاً لا يمنحهم وقتاً .
ما نحتاجه هو إعادة وصل الشعر بالحياة ، أن يُدرس بذكاء ، لا بنصوص جامدة، أن يُذاع ، لا أن يُحبس ، أن يُقرأ كما يُغنّى .

خاتمة:
في "الزمن الجميل"، كان الشعر لغة للناس ، وأداة للكرامة ، وموسيقى للوعي .
أما اليوم، فهو كالعصفور الذي فقد شجرته، يبحث عن يد لا تصفق له، بل تكتب معه .
ولعل العودة إلى الشعر ليست حنينا ، بل ضرورة لإنقاذ الذائقة ، وإعادة اللغة إلى مكانها الطبيعي:
قريبة من القلب، ومشحونة بالمعنى .

أترك تعليقاً

التعليقات