مروان ناصح

مروان ناصح / لا ميديا -
المسرحية.. أول اعتلاء للمسرح، وآخر خوف من الظهور
في باحة المدرسة، وبين الجدران المليئة بشعارات الانضباط وحِكم الأوائل، كانت تُنصَب الستارة.. لا لتُخفي، بل لتكشف.
هناك، في ظلال مسرح صغير مرفوعٍ على ألواحٍ خشبية، كان المراهق يختبر نفسه للمرة الأولى: صوته، جسده، مشاعره، وقدرته على مواجهة الجمهور.

البروفة الأولى.. بروفة للذات
لم يكن الهدف هو الدور، بل القدرة على التجسيد.
في أول بروفة، يرتجف الصوت، تتداخل الجمل، ويضحك البعض خجلًا.
لكن شيئًا ما يبدأ بالتشكّل: إحساس خفي بأن هذا "اللعب" أكثر جدية من دروس الحساب.
فالمسرح علّمهم كيف ينطقون الجملة لا كما كُتبت، بل كما يشعرون بها.
كان معلم اللغة العربية هو المخرج.. وكان دوره أكبر من توجيه الأداء: كان يزرع الثقة في النفس كما يُصحّح مخارج الحروف.

النص المسرحي.. دفتر أفكار وطنية
في زمن كانت الكلمات فيه تهدر بالوطنية والحرية، كانت المسرحية أداةً ذكية ليتشرب المراهقون الهتاف بالشعارات الرنانة، في كل الأزمنة العربية يختار المعلم نصًا عن صلاح الدين، أو هارون الرشيد.. أو خالد بن الوليد.
وفي الستينيات "الاشتراكية" عن الفلاح الذي يقف أمام الحاكم مطالبا بحقوقه من الإقطاعي الظالم.. فيصفق الجميع حين تنتصر الرسالة "الخالدة".. ثم يسدل الستار على الأحلام الكبيرة بكل فخر واعتزاز.

الخشبة.. امتحان الجرأة
عندما تُسحب الستارة، ويبدأ التصفيق، تتغير الملامح.
المراهق الذي يكاد لا يرفع صوته في الصف، يقف شامخًا أمام الجميع.
في لحظة، يذوب الخجل، ويُولد الإحساس بالمسؤولية.
الكلمة أصبحت واجبًا، والحركة رسالة، والابتسامة توقيتًا مدروسًا.
المسرح كشف لهم عن نسخة أخرى من أنفسهم.. أكثر ثقة، وأكثر حضورا.

ذكريات لا تُنسى
بعد العرض، لا أحد يتذكر الفصل الخامس من كتاب العلوم، لكن الجميع يتذكر "الدور" الذي أداه زميلهم.
تُصبح الجملة المسرحية مثل النكتة المتداولة، والحركات المبالغ بها جزءًا من سجل الذاكرة المدرسية.
ومن تلك الذكريات، تولد في البعض شرارة الحلم: ممثلًا؟ كاتبًا؟ مخرجًا؟ أو حتى ناقدًا يُدقق في نظرات الممثل حين يسهو عن الشعور!

واليوم.. أين الخشبة؟
في كثير من مدارس اليوم، غاب المسرح، أو اختُزل إلى مشهد تمثيلي بائس في احتفال رسمي.
غابت "اللعبة" الجميلة التي كانت تعلمنا كيف نكون أنفسنا في ثياب شخصيةٍ أخرى.
اختفت المساحة الآمنة للتعبير، واختنقت الموهبة في زحام الحصص والتقارير.

خاتمة
في "الزمن الجميل"، كانت المسرحية المدرسية حدثًا سنويًّا يشبه العيد.
أعدّوا لها كأنهم يعدّون لعرضٍ عالمي، وانتظرها التلاميذ كما ينتظرون العطلة.
كانت الخشبة مرآةً مبكرة للذات، ومنبرًا صغيرًا للحرية، وتجربة أولى في التمثيل أمام الحياة.
ومن وقف عليها يومًا، نادرًا ما ينسى كيف تعلّم أن يكون صوته واضحًا، وأن يكون حضوره ذا معنى.

أترك تعليقاً

التعليقات