شهودٌ على الدم.. شهداءٌ في الدم
 

مرتضى الحسني

مرتضى الحسني / لا ميديا -
قلمٌ ومايكرفون وكاميرا. أسلحةٌ ثلاثة يعوذُ بها الصحفيون، وأحرفٌ يتلُوُن بها مأساةً شعبٍ عربيٍّ مسلمٍ في أرضٍ عربية إسلامية، يرفعونَ صوتهم عالياً عسى أن يُسمِعوا من كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد، وما وجدوا سامعاً، فانقلبوا شهداء في عالمٍ لا يسمع ولا يرى، بل لا يريد أن يسمع أو يرى، فما يرتكبه كيانُ الاحتلال إبادةً وتطهيراً عرقياً على غزةَ أنصع من ضوء الشمس في كبدِ السماء. دعك يا عالم من السمع والبصر، فماذا عن رائحة الموتِ المتصاعدة من بين كثبان غزة إذ تنشرها الرياح شرقاً وغرباً إلى كل مكان؟! ألا يشتمُّها الناس الأباعدُ قبل الأقارب؟!
قرابة 240 صحفياً قتلتهم آلة القتل «الإسرائيلية»، آخرهم الستة الذين قُتلوا ليلة الاثنين في خيمة الصحفيين أمام بوابة مستشفى الشفاء وسط قطاع غزة المحاصر، بينهم مراسلا «الجزيرة» أنس الشريف ومحمد قريقع؛ في إحصائيةٍ تفوق عدد القتلى الصحفيين في الحربين العالميتين الأولى والثانية، وبسلاحِ كيانٍ يُقال بأنه «دولة»، بل و»الأكثر تحضراً وأخلاقيةً في منطقةٍ من حولها كلهم وحوش»، وتعساً له من «قِيلٍ»؛ إذ يرى قتل الصحفي -الذي لا يحمل سوى الحقيقة، ومحمي بكل قوانين الحرب والسلم والأعراف الدولية، كجريمة حربٍ لا يُسقطها التقادم- إنجازاً يتفاخر به متبجحاً. وليس ذا بغريبٍ عمن يوغل في الدم الفلسطيني والعربي أكثر من سبعة عقود بوحشيةٍ غير مسبوقةٍ منذُ بدء الخليقة حتى يومنا هذا.
في أكبر مجزرة بحق الصحافة عبر التاريخ، تعمد قوات الاحتلال «الإسرائيلي» إلى قتل الصورة وإطفاء الصوت أكبر قدرٍ ممكن، هادفةً إلى قطع الشهادةِ التي توثق وحشيته الطاغية، إذ يراهم خطراً أكبر على روايته المزوّرة التي يشرعن بها إبادته الجماعية لأهل غزة والتطهير العرقي الذي يمارسه بحقهم. فربما لم يسبق لهذا الكيان منذُ نشأته أن نُشرت فظاعة إجرامه بصورةٍ أوضح من الآن؛ إذ تنفلت من بين يديه، اللتين طالما كانتا مسيطرتين على إمبراطوريات الإعلام ولم يتوانيا يوماً عن بناء صورةٍ مزيفةً تُخيِّلُهُ للعالم ضحيةً لا جلاداً طيلة عقود عمره السبعة، وهذا ما جعله يتجه إلى الحرب على الحقيقة نفسها، على الذاكرة الجمعية، على الحق في أن يروى ما جرى بلا رتوش ولا رقابة.
ماذا عن القانون الدولي، اتفاقيات جنيف، نظام روما للمحكمة الجنائية الدولية، وكل ما كُتب عن الحماية في مناطق النزاع؟!
اتضح أنها كلّها أوراق هشّة أمام قبضة تسحق العدسة كما تسحق الجمجمة. تتبخر أمام مشهد كاميرا تتفتت بعدسة مثقوبة بالشظايا والرصاص... ليصبح ويمسي، يغدو ويضحي القانون بمواده المنمقة -في غزة- أقلّ قيمةً من الحبر الذي كُتب به، يتناثر مع أشلاء الصحفي وشظايا الكاميرا.
إن هذه الجرائم لا يرتكبها السلاح الصهيوني وحده، بل يشاركه فيها صمتٌ مطبقٌ يُلجمُ عواصمَ كانت تخطب الخطب الرنانة في مهرجاناتٍ تدّعي حريةَ الصحافة وحماية الصحفيين وحقوقهم، لم تلبث اليوم ابتلاعاً لألسنِها؛ كون القاتل حليفاً، يُزيَّنُ لها أن صمتها برود ديبلوماسي وما هو كذلك، إنما هو توقيعُ شراكةٍ في جريمةٍ اسمها «إعدام الحقيقة» أضحى فيها الشهود على الدم شهداء في الدم.

أترك تعليقاً

التعليقات