عثمان الحكيمي

عثمان الحكيمي / لا ميديا -
على مرأى عالمٍ اعتاد الصمت، انفجر -فجر الاثنين- غضب فلسطيني خالص. لم تكن تلك شمس الصباح التي أشرقت فحسب، بل كانت لحظةً كاشفةً تجلّت فيها إرادة المقاومة، وكتب فيها أبناء الشعب الفلسطيني فصلاً جديداً من فصول المواجهة، بمدادٍ من نار ودم. فمن أزقة مخيم جباليا الصامد شمال غزة، إلى محطة حافلات استراتيجية في قلب القدس المحتلة، انفجرت عمليتان نوعيتان لترسما معاً لوحةً معقدة من التحدي والردع. لم تكن هذه العمليات مجرد أرقامٍ تُضاف إلى سجل الخسائر الصهيونية، بل كانت رسائل استراتيجية عميقة هزّت أركان المنظومة الأمنية «الإسرائيلية»، وأجبرت قادتها، من نتنياهو إلى بن غفير، على الهرولة إلى مسرح الحدث، في مشهدٍ يعكس حجم الصدمة والارتباك. إنه الصباح الذي أثبت أن قوة الإرادة قادرةٌ على تحييد جبروت التكنولوجيا العسكرية، وأن كل شبرٍ من الأرض المحتلة هو جبهةٌ مشتعلة.

جباليا.. نار تحت رماد الحصار
في قلب جباليا، حيث يُفترض أن للجيش «الإسرائيلي» اليد العليا حسب مزاعمه، خرج المستحيل من رحم المعاناة. العملية التي استهدفت مدرعة جنود الاحتلال لم تكن مجرد كمين، بل كانت درساً في العقيدة القتالية. أن ينجح مقاوم في الوصول إلى آلية يُفترض أنها محصنة ضد كل شيء، ويزرع فيها عبوة ناسفة من مسافة صفر، وإن كان المشهد مألوفاً، لكنه في الحقيقة يحطم أسطورة «الجيش الذي لا يقهر»؛ هذه العملية النوعية كشفت عن فشل استخباراتي وتكتيكي فاضح، وأثبتت أن المقاومة كالجمر تحت الرماد، لا تطفئه العواصف، بل تزيده توهجاً. إنها رسالة واضحة بأن التهديد والوعيد باحتلال غزة بالكامل والتصريحات في هذا السياق لن تكون نزهة، وأن كل آلية وجندي هو هدف، ما يرفع الكلفة البشرية للاحتلال إلى مستوى قد لا تستطيع قيادته السياسية والعسكرية تحمّله على المدى الطويل.

عملية القدس.. كسر وهم العزل
وفي حين كانت الأنظار تتجه إلى لهيب جباليا، كانت القدس على موعدها الخاص مع عمليةٍ تعيد تعريف مفهوم «الأمن». استهداف حافلة للمستوطنين في مفرق «راموت» الاستراتيجي لم يكن عملاً فردياً معزولاً، بل كان ضربةً محسوبةً بدقة في خاصرة المنظومة الأمنية. لقد أثبتت هذه العملية أن المقاومة كفكرة لا يمكن عزلها، وأن روحها قادرة على الظهور في الزمان والمكان غير المتوقعين. لم يكن وصول نتنياهو وبن غفير إلى الموقع استعراضاً للقوة، بل كان اعترافاً صامتاً بحجم الاختراق وعمق الصدمة. تضع هذه العملية ضغطاً هائلاً على الحكومة الصهيونية، وتؤكد أن محاولات فرض واقع أمني بالقوة لن تجلب سوى مقاومة أعنف، وأن القدس ستبقى دائماً في قلب معادلة الصراع.

طقوس دفن الكيان
ما لم يدركه وزير الأمن الصهيوني هو أن دعوته إلى تسليح المستوطنين قد تكون هي الطقس الجنائزي الأخير لإعلان موت كيانهم. صحيح أن تسليح المستوطنين سيزيد الخناق والصعوبة على أبناء الشعب الفلسطيني؛ لكنه في المقابل يزرع بذور التدمير الذاتي في مجتمعهم. إن نشر السلاح عشوائياً في المجتمعٍ الصهيوني، الذي يغلي بالانقسامات والغضب على نتنياهو بسبب ملف الأسرى والحرب في غزة، هو بمثابة صب الزيت على النار. هذا السلاح، الذي يُشهر اليوم في وجه الفلسطيني، هو خنجر مسموم سيرتد غداً إلى خاصرة صانعه، ليصبح لغة الحوار الوحيدة في حرب أهلية ربما تلوح نُذُرها في الأفق في أي وقت. فهل سيصبح هذا السلاح هو المرساة التي تثقل أقدامهم في مستنقع خلافاتهم الداخلية؟
وهنا، في قلب هذا المشهد، يولد الأمل؛ الأمل بأن تكون هذه الفوضى هي الطوفان الذي سيغرقهم، وأن يكون هذا «الحل» الذي ابتكروه في ذروة يأسهم، هو الرصاصة التي ستنهي أسطورتهم الهشة. ففي بعض الأحيان، لا تحتاج إلى هزيمة عدوك؛ يكفي أن تراقبه وهو يدمر نفسه بنفسه.

هروب نتنياهو ورد الفعل الوحشي
وجد نتنياهو في ما حصل للصهاينة فرصة ذهبية لالتقاط الأنفاس، مستغلاً «الظرف الأمني» كهدية غير متوقعة لتأجيل محاكمته والهروب من مقصلة القضاء. لكنها فرحة لن تطول، فالشارع «الإسرائيلي» الذي يرى المغامرة الجنونية بأم عينه لن يمنحه صكاً على بياض إلى الأبد. وكالعادة، جاء الرد «الإسرائيلي» الرسمي سريعاً ووحشياً على المدنيين في غزة عبر القصف. عندما تفشل الدبابة في الميدان، لا يبقى سوى الاستهداف كعقاب جماعي لإشباع غريزة الانتقام لدى جمهور محبط يعاني من شرخ كبير في بنيته الداخلية، والتي يجب على الباحثين والمتابعين بشكل عام تسليط الضوء عليها. نعم، هنا يتجلى تآكل الرواية «الإسرائيلية» بأوضح صوره، صورة المقاوم الذي يقتحم مدرعة تهزم في تأثيرها النفسي صورة برج يحترق، وتؤكد أن «إسرائيل» فقدت زمام المبادرة في حرب الإرادات.
في النهاية، بعيداً عن ضجيج الميدان، تدور حرب أخرى لا تقل ضراوة: حرب الروايات والوعي، وهي الحرب التي يبدو أن «إسرائيل» تخسرها بوضوح. فكل بيان رسمي عن «التقدم» و»السيطرة» يتبخر أمام صورة واحدة لمقاوم يقتحم مدرعة، أو مقطع فيديو يوثق استهداف جندي من مسافة صفر. هذه الصور أصبحت أيقونات عالمية تهزم في تأثيرها النفسي صورة أحدث الطائرات «الإسرائيلية»، وتثبت أن الردع لم يعد مجرد قوة نارية، بل هو حالة نفسية ومعنوية. والأخطر من ذلك أن «الجيش الإسرائيلي» نفسه تحول إلى جزء من هذه الحرب النفسية ضد قيادته، فإعلانه المتزايد عن خسائره لم يعد شفافية، بل رسالة سياسية داخلية مفادها أن الثمن أصبح باهظاً. هذا التآكل في الرواية هو ما يغذي الانقسام الداخلي، ويفسر لجوء بن غفير إلى ملشنة المجتمع الصهيوني، لأن من الواضح أنه لم يعد يثق برواية «الجيش القوي» التي يقدمها الكيان.
وفي خضم هذا البركان الميداني، تطفو على السطح مبادرة أمريكية جديدة، تبدو كغصن زيتون في فوهة مدفع. لكن ما إن ينقشع غبار الدعاية، تتضح الحقيقة العارية: ما فشلت الدبابة في فرضه بالقوة، يحاول البيت الأبيض تمريره بالخداع الدبلوماسي. داخلياً، كل عملية نوعية بمثابة مطرقة تهوي على جدار المجتمع الصهيوني المتصدع. وكرد فعل، من المتوقع أن نشهد فصلاً أكثر دموية من الجرائم الصهيونية، في محاولة يائسة لترميم صورة الردع المنهارة. إنه المشهد الأخير كما نراه، عدوٌّ يغرق في رمال متحركة من صنعه، في مقابل مقاومة ترسم خرائط جديدة للإرادة، وشعب يخط بدمائه الطاهرة شهادة ميلاد فجرٍ جديد.

أترك تعليقاً

التعليقات