عثمان الحكيمي

عثمان الحكيمي / لا ميديا -
في قلب الجغرافيا المنكوبة، تتلوّى غزة تحت وطأة الصمت الدولي والقصف والخراب الصهيوني، حيث لا يفرّق الموت بين طفل وشيخ، ولا بين نازح ومقاوم... قبل أيام قليلة، ارتفع عدد الشهداء مجدداً، بينهم أطفال ونساء، في مشهد يعيد تعريف المأساة الإنسانية في هذا القطاع. الخط الأصفر الذي رسمه الاحتلال كحدّ فاصل بين الحياة والموت بات يتقدّم غرباً، حاملاً معه رائحة البارود وصدى النزوح الجماعي. في يوم الطفل العالمي، لا تُسمع ضحكات الأطفال في غزة، بل أنينهم تحت الركام.
 جريمة مستأنفة.. خرق اتفاق وقف إطلاق النار
لم يكن وقف إطلاق النار بين المقاومة والاحتلال سوى هدنة معلّقة على خيط وهم، سرعان ما مزّقته رغبة الاحتلال في اقتطاع مزيد من حياة الغزيين. خرائط "الخط الأصفر" التي احتفى بها الوسطاء تحوّلت إلى خطوط دم، إذ اقتحمت الدبابات الصهيونية مناطق حيّ التفاح والشعَب والشجاعية، فارضةً قسوة المكان على أقدار ساكنيها. لم يكتفِ الاحتلال بوضع المكعبات الأسمنتية الصفراء، بل صنع بؤر موت جديدة في الخاصرة الشرقية للمدينة، متذرّعاً بملاحقة المقاومة وتجفيف منابعها، بينما تغيب بوصلة القانون والإرادة الدولية عن المشهد. بات الصمت الدولي مرادفاً للدم، وصدى صرخات الأطفال الهاربين من حرائق الليل وعصف المجازر. تتوالى خروقات الاحتلال، ويتعمّق مشروعه في خلق "غزة العازلة"، بينما تتحوّل أحياء القطاع إلى صحراء من الركام، يحصي فيها الأحياء شهداءهم، ولا يجد الأطفال سوى الجوع والنزوح والموت قيد الانتظار. العالم كلّه بات شاهداً أخرس على الجريمة، وأداةً في تبييضها.

مشروع الاقتلاع الجماعي.. هندسة الخراب
التغيير الجغرافي الذي ينفّذه الاحتلال يحمل نوايا سياسية لتكريس واقع عسكري دائم، يتجاوز اتفاق وقف إطلاق النار، ويعيد تشكيل خريطة القطاع بما يخدم مصالحه. ليست حملة الاحتلال ضمن الخط الأصفر مجرد إجراء أمني كما تزعم "تل أبيب"، بل هي حجر الأساس لمخطط أكبر: تجريد غزة الشرقية من أهلها وتغيير جغرافيتها الديموغرافية. الدلائل تتجمع: أكثر من 1500 مبنى ومنشأة هُدمت في شهر واحد فقط بعد توقيع الهدنة، وفق صور أقمار صناعية حديثة. جرافات الاحتلال تقوّض كل بيت، وتزيل كل علامة تدل على ملكية أو أمل في العودة، تحت ذرائع "تجفيف البنى التحتية الإرهابية"، بينما يُحرَم النازحون من مجرد الاقتراب من أملاكهم أو منازلهم.

الخط الأصفر.. مختبر التطهير المكاني
منطقة الخط الأصفر تحوّلت إلى مختبر حيّ لسياسة التطهير المكاني. الاحتلال يريد أن يحتفظ بما يستولي عليه بقوة الحديد والنار، مستنداً إلى صمت دولي لا يجرؤ حتى على الإدانة. القطاع بات يحمل بصمة هندسية عسكرية تهدف إلى خلق منطقة عازلة داخل غزة، تتجاوز ما تم الاتفاق عليه في مفاوضات وقف إطلاق النار. المكعبات الأسمنتية الصفراء لم تعد أدوات فصل، بل أعمدة تأسيس لواقع جديد، حيث تُفرغ الأحياء من سكانها، وتُهدم المنازل لمنع العودة. الاحتلال لا يكتفي بالسيطرة، بل يعيد تشكيل الجغرافيا لتصبح أداة ردع دائمة وذريعة أمنية لتبرير أي عملية مستقبلية.

الصمت الدولي هو الوقود الحقيقي لآلة الإبادة
ليس خرق الاحتلال لاتفاق وقف إطلاق النار سوى رأس جبل الجريمة. أما القاعدة فهي تواطؤ دولي ممنهج يجمّل القبح بمكياج الشرعية، ويشرعن الإفناء تحت راية "القلق". الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، والأمم المتحدة، وبعض الأنظمة العربية، جميعهم اختاروا أن يكونوا شهود زور في محكمة التاريخ، حيث تُحاكم غزة يومياً دون قاضٍ أو دفاع أو تنفيذ لأي قرار. لم تُرفع قضية واحدة إلى محكمة عادلة، ولم يُتخذ إجراء واحد لوقف آلة القتل، بل تُدار الأزمة بمنطق "إدارة الجريمة لا منعها".
الخطاب الصهيوني يخدم مصالح القوى الكبرى؛ إذ بات قتل الأطفال وتدمير المستشفيات والمدارس أقل وقعاً من حسابات الطاقة والتحالفات والانتخابات. العدالة الدولية استبدلت أدواتها القانونية بآلة إعلامية تروّج لرواية الاحتلال، وتعيد تعريف الضحية كمشتبه به، والمجزرة كعملية أمنية. هذا الصمت ليس حياداً، بل مشاركة نشطة في الجريمة. يدرك الاحتلال ألا أحد سيحاسبه، لذلك يمعن في التدمير، ويُراكم الوقائع على الأرض، مدفوعاً بيقين استراتيجي أن "الشرعية تُصنع بالصوت الأعلى لا بالحق الأوضح".

هل ستلون المقاومة الخط الأصفر بالدم والكرامة؟
هل يتحول الخط الأصفر إلى حدود دائمة داخل غزة؟ وهل ما يجري الآن تمهيد لسيناريو تقسيم ميداني يعيد إنتاج نكبة جديدة؟ الاحتلال لا يكتفي بالتمدد العسكري، فهل تسكت المقاومة؟ وهل تكتفي حركة حماس بالمناورة؟ أم أن الرد قادم من تحت الركام؟
هذا السؤال الوجودي: هل سيبقى الخط أصفر إذا قررت المقاومة أن تعيد تلوينه بلونها الأبدي، الدم والكرامة؟ فالمقاومة لا تقرأ الخرائط كما تُرسم في غرف العمليات، بل كما تُختبر في ساحات الاشتباك. هذا الخط الذي يُراد له أن يفصل بين "المسموح والممنوع"، قد يتحول إلى شريط اشتعال إذا ما قررت غزة أن تعرّفه كمنطقة مواجهة لا منطقة انسحاب. فهل تكتفي حماس بالمراقبة؟ أم أن القرار قد نضج في غرف العمليات؟ وهل نحن أمام لحظة انقلاب مفاهيم، حيث تسقط المقاومة منطق الفصل وتعيد فرض منطق الاشتباك؟
في ظل التمدد الصهيوني وغياب الرد الدولي، تبدو المقاومة أمام لحظة استراتيجية فارقة: إما أن تبقي الخط الأصفر كواقع مفروض، وإما أن تعيد تلوينه بلون الأرض حين تدافع عن نفسها. فالمعركة القادمة ليست على الأرض فقط، بل على المفاهيم: من يرسم الحدود؟ ومن يملك حق البقاء؟
الخط الأصفر قد يكون أول ما يتغيّر؛ إذا قررت البنادق أن تتكلم.

أترك تعليقاً

التعليقات