عثمان الحكيمي

عثمان الحكيمي / لا ميديا -
على أرض السودان المنهكة، حيث يحتدم الصراع على السلطة والموارد والثروات، تبرز البلاد كمرآة تعكس صراع الإرادات بين الداخل المنقسم والخارج المتربص، في مشهد يختصر ملامح اضطراب المنطقة بأسرها.
هذا البلد، الذي يمثل خاصرة إفريقيا والعالم العربي، يقف كجسرٍ من طين النيل ووهج الصحراء، والذي كان من المفترض أن يلتقي فيه العرب عند مصالحهم كما تلتقي أنهارهم، لا أن يتنافروا؛ فهو ميزان القارة الإفريقية ومتنفّس الأمن القومي العربي. اليوم، ينبض السودان كجرح مفتوح على كل الاحتمالات تتقافز فوقه الحسابات وتتنامى فيه الأجندات، حتى غدا مرآةً لاضطراب العالم بأسره. فالتصعيد العسكري الأخير لا يثير القلق فحسب، بل يفتح أبواب التكهنات على مصراعيها. فرغم أن الصراع في السودان قد يبدو للوهلة الأولى وكأنه مجرد تنافس داخلي على السلطة بين جنرالين، فإن التعمق في التفاصيل الدقيقة يكشف ما هو أبعد من ذلك: يكشف الخرائط التي تحترق تحت أقدام الجنرالات والمليشيات، والأيدي القذرة والمؤامرات الخفية التي تهدف إلى إبقاء هذا البلد جرحاً مفتوحاً.

وحشٌ نسجه النظام في الظلام
لم يكن التصعيد العسكري الأخير في السودان وليد اللحظة، بل هو النتيجة الحتمية لتراكم التناقضات في بنية الدولة الهشة، حيث تتجسد أزمة تخصيص القوة في أبهى صورها. فبالعودة إلى الوراء، تتجلى قصة قوات الدعم السريع، التي ولدت من رحم الحاجة الأمنية لنظام شمولي، حيث تشكلت من مليشيات الجنجويد في إقليم دارفور بهدف تأمين مصالح النظام المركزي خلال التمردات. كانت هذه القوات تجسيدًا لاستراتيجية البشير في خلق موازين قوة داخلية تضمن له البقاء؛ فقد منحها الشرعية بمرسوم رئاسي عام 2013، ثم عزز نفوذها بقانون الدعم السريع لعام 2017، محولًا إياها إلى قوة أمن مستقلة تابعة له مباشرة، في عملية تخصيص للقوة لم تكن نتيجتها سوى إضعاف ممنهج للجيش الوطني.
سمح لها البشير بالسيطرة على مناجم الذهب لتمويل ذاتها، لتتحول إلى وحش يلتهم صانعه، ثم شريكاً في السلطة قبل أن تنقلب إلى خصم ضد القوى المدنية، في مشهد يعيد رسم فصول مأساة سودانية دامية، مشهد كئيب يغلفه الظلام، تتساقط أحلام الوطن كأوراق جافة تلتهمها رياح الحرب، لتترك خلفها أنقاضًا يحفرها الزمن على جدران الذاكرة. عندما هبت رياح التغير في ديسمبر 2018، انحازت هذه القوات إلى جانب الثورة، أو بالأحرى، انقلبت على صانعها، لتصبح شريكاً للجيش في قيادة المرحلة الانتقالية. لكن هذه الشراكة الهشة، التي كانت تحالف ضرورة، سرعان ما تصدعت مع الحديث عن الدمج، ليتحول الخلاف إلى صراع وجودي على هوية الدولة السودانية، في مشهد مأساوي يعيد إلى الأذهان سيناريوهات الدولة الهشة الفاشلة التي تتصارع فيها المليشيات على الأنقاض.

مدينة تاهت بين الخرائط والرماد
في الفاشر، وتحديداً في فجر الـ26 من أكتوبر 2025، لم تُهزم مدينة فحسب، بل انكسر ضلعٌ حيوي من أضلاع السودان، وانهارت آخر قلاع المركز أمام زحف الأطراف، 500 يوم من الحصار لم تكن زمناً عسكرياً، بل تقويماً دموياً يُقلَّب على وقع المدافع، وتاريخاً يُكتب بدم السكان، وجوعهم، وخذلان المتفرجين. حين ارتفع علم الدعم السريع فوق أنقاض الفرقة السادسة مشاة، لم يكن ذلك إعلان نصرٍ ميداني، بل نعيًا لمفهوم الدولة وإن كانت هشة، وإشارة إلى ولادة جغرافيا جديدة تُحكم بالبندقية لا بالدستور.
سقوط الفاشر كشف مدى تآكل المنظومة العسكرية الحكومية أمام تكتيك «الخنق البطيء». وبمجرد سقوطها، انقلبت موازين القوى وتغيرت خريطة السيطرة؛ فلم يكن الأمر مجرد خسارة ميدانية، بل كان زلزالا استراتيجيا يهدد تقسيم السودان ووحدة أراضيه. اعتمدت قوات الدعم السريع استراتيجية تقوم على الحصار المطوّل، والقصف المدفعي المكثف، واستخدام الطائرات المسيرة، إلى جانب فرض انقطاع تام للاتصالات.
هذه التكتيكات، التي دعمتها سواتر ترابية أُقيمت لتعزل المدينة، كان لها الأثر الأعمق في عزلها عن العالم وفتكها بالمدنيين قبل العسكريين. نجحت قوات الدعم السريع في اختراق دفاعات الجيش السوداني بعد استنزاف طويل، كاشفةً عن نقاط ضعف المنظومة العسكرية الحكومية، بينما حاولت القوات المسلحة الدفاع عن آخر ما تبقى من وجودها في دارفور، لكنها لم تصمد أمام ضغط متدرج ومدروس ومكثف. الفاشر لم تعد مجرد مدينة، بل تجربة مريرة، وشاهد حي على مأساة المدنيين الذين عانوا الجوع والقتل الجماعي، بينما العالم يراقب بصمت.
من رحم الحصار خرجت مأساة إنسانية تُدين الجميع: أكثر من ثلاثة آلاف قتيل في أيام، ومئات الإعدامات، واغتصابٌ ممنهج تحوّل إلى سلاح حرب. السودان اليوم لا ينزف من غربه فقط، بل من ضميره، ومن صمته أمام جريمة تتجاوز حدود المكان والزمان. إن سقوط الفاشر ليس نهاية معركة، بل بداية سؤالٍ كبير: هل يمكن لوطنٍ أن يبقى قائمًا إذا سقطت مدينته في قلبه؟

وطنٌ على حافة الزلزال
إن ما بعد الفاشر أخطر من سقوطها؛ فتلك المجاميع التي اقتحمت المدينة لم تحمل البنادق فقط، بل مشروعًا موازياً للدولة، يُكتب بالذهب ويُنفذ بالبارود، ويُشرعن بخريطةٍ جديدة تُرسم على أنقاض الخرائط القديمة. دارفور اليوم تحت قبضة قوات الدعم السريع، والجيش تراجع في مشهدٍ يُشبه انسحاب الفكرة أكثر من انسحاب الجندي.
سقوط الفاشر يفتح أبواب المستقبل على سيناريوهات خطيرة: سيطرة الدعم السريع على دارفور بالكامل تعيد تشكيل ميزان القوى في السودان، وتضع الجيش في موقع الدفاع عن نفسه شرقاً وشمال كردفان. المدينة التي حملت رمزية التاريخ والسياسة والاقتصاد، تحولت إلى «معركة وجود».
السؤال الذي يفرض نفسه الآن يتجاوز سقوط الفاشر إلى مصير السودان: هل يندفع السودان نحو التشظي والانقسام؟ وهل هذا الانهيار العسكري للجيش يُبشّر بتقسيم لا رجعة فيه؟ إن سقوط الفاشر ليس سوى مفتاح لفهم طبيعة المرحلة القادمة من الصراع، وهو في جوهره درس قاسٍ في هشاشة الدول التي تواجه استراتيجيات خارجية محسوبة بعناية، إذ كل خطوة عسكرية فيها لها ارتدادات سياسية وإنسانية عميقة. وفي المحصلة، فإن المدينة التي سقطت ليست خسارة جغرافية عابرة، بل هي انعكاس حقيقي لمستقبل وطن كامل يواجه مفترق الزلزال.

أترك تعليقاً

التعليقات