قـراءة في مآلات قمة شرم الشيخ.. تواطؤ دولي على أنقاض غزة
- عثمان الحكيمي السبت , 18 أكـتـوبـر , 2025 الساعة 1:20:37 AM
- 0 تعليقات
عثمان الحكيمي / لا ميديا -
على مسرح قمة شرم الشيخ، حيث تُرفع ستائر الدبلوماسية، لم تكن كل الحناجر تصدح باللحن ذاته. فبينما كانت أصواتٌ كـ(مصر وقطر) تتغنى على استحياء بنوتات سلامٍ بالكاد تُسمع، كان هناك من يعزف منفرداً (ترامب) لحناً صاخباً، يخوض به معركته لتلميع تمثال إرثه السياسي، وتقديم نفسه "صانعاً للسلام" في مشهد الختام.
في هذا التقاطع المعقد للأقنعة والمصالح، بدا وكأن التاريخ لا يكرر مشاهده الباهتة فحسب، بل يمد ظلاله الطويلة ليؤكد أن ما نشهده اليوم ليس سوى فصل جديد في مسرحية قديمة لم تُسدل ستائرها بعد. إنها ليست مجرد قمة، بل هي امتدادٌ لذاكرة اتفاق "غزة وأريحا" عام 1994؛ ذلك الاتفاق الذي لم يكن سوى حبرٍ سُكب على ورق الوعود، فرُسمت به حدود واقعٍ جديد تحت شعار السلام، ليُكتشف فيما بعد أنه لم يكن إلا واجهة مُزخرفة لترتيبات أمنية أشد قتامة، لا تخدم سوى مصالح الكيان الصهيوني وحلفائه في لعبة الهيمنة الكبرى.
من الكنيست إلى شرم الشيخ
لم تكن قمة شرم الشيخ سوى الفصل الأخير من مسرحية الخداع، التي بدأت فصولها قبل ساعات من القمة على منصة الكنيست الصهيوني. هناك، وقف دونالد ترامب، وبجانبه نتنياهو الذي تغرق سجلاته في وحل الفساد، ليخاطب رئيس الكيان الصهيوني مادحاً، ومتجاهلاً كل التهم التي تلاحقه، في محاولة وقحة لتبييض صفحته أمام العالم. ثم، وبذات الخفة، طار إلى شرم الشيخ ليتصنّع دور "صانع السلام"، ويحتفل بمبادرته.
لقد اجتمع "القادة"، الذين ظلوا لمدة سنتين يراقبون بصمت مريب آلة القتل الصهيونية وهي تحصد الأرواح، لا ليدينوا الجريمة، بل ليصفقوا للخدعة. إن المخاطر المترتبة على هذا التواطؤ كارثية؛ فهذه ليست مجرد قمة، بل هي إعلان عن قبول "سلام مسموم"؛ سلام لا يعيد حقاً ولا ينهي احتلالاً، بل يمنح شرعية مطلقة للكيان الصهيوني كشرطي للمنطقة. الخطر الحقيقي هو تكريس منطق "الأمن مقابل الصمت"، الذي يطلب من الضحية أن تبيع قضيتها مقابل وعود زائفة. إنها قمة لتصفية القضية الفلسطينية علناً، عبر تجاوزها وتشكيل تحالفات جديدة تخدم أجندة واشنطن، مما يضمن غرق المنطقة في مستقبل من الصراعات المؤجلة والتبعية الكاملة.
هندسة التبعية تحت ستار السلام
إن تحليل قمة شرم الشيخ، بعيداً عن بروتوكولاتها الإعلامية، يكشف أنها ليست حدثاً معزولاً، بل هي حجر الزاوية في إعادة تشكيل "النموذج الفكري" للمنطقة ضمن مشروع استراتيجي أوسع يُعرف بـ"الشرق الأوسط الجديد". هذا المشروع، الذي يسوّق نفسه تحت شعار السلام، يهدف في جوهره إلى استخدام القمة كنقطة انطلاق لهندسة أمنية إقليمية جديدة، وتكريس "اتفاق إبراهيم" كإطار عمل لا غنى عنه للمصالح الاستراتيجية لواشنطن.
يمكن وصف هذا المشروع بأنه "خبيث بنيوياً"، فهو مصمم لضمان استدامة هيمنة القوى العالمية عبر "الأطراف الفاعلة إقليمياً" من جهة، وتثبيت شرعية كيان الاحتلال وترامب من جهة أخرى. وفي هذه المعادلة، يتم تحويل "القادة" الحاضرين إلى مجرد أدوات وظيفية في مسرحية سياسية كُتب نصها مسبقاً؛ دورهم يقتصر على التصفيق وإضفاء الشرعية على مخرجات تم إقرارها سلفاً خلف واجهة السلام المزعجة.
إن ما يجري هو عملية "تأمين" للمصالح على حساب الحقوق؛ فخلف الابتسامات، تُدار لعبة مصالح جغرافية -سياسية، تُحاك خيوطها عالمياً وتُنفذ عبر وكلاء محليين، بهدف رسم خريطة جديدة يتم فيها استبدال مفاهيم السيادة والكرامة الوطنية بمفاهيم الولاء والتبعية. بالتالي، لا يمكن اعتبارها قمة، بل هي ورشة عمل لتطبيع الهيمنة، حيث يُقايض "الأمن" بالصمت، وتُستبدل الحقوق السياسية بوعود مشروطة، مصممة هيكلياً لكي لا تتحقق أبداً.
نهاية المشهد.. وبداية العاصفة
في رحاب قمة شرم الشيخ، حيث رفعت ستائر الدبلوماسية اللامعة لتخفي وراءها فصول ذاك المسرح السياسي المتكرر، تظهر شروخٌ تتسلل عبر جدران الوهم التي تحوط الدول المتجمعة على مسرح المشهد. هناك، في الأفق البعيد، نلمح تصدعات عميقة في التحالفات التي ظنّ البعض أنها متينة، لكنها في حقيقتها بُنيت على مصالح آنية هشة لا تتحمل وطأة العواصف الحقيقية. تحالفات تترنح كبيوت من ورق عند أدنى هبّة، وأخرى تخفي تحت صمتها جبهات نائمة قد تستيقظ بعنف لتعيد رسم خرائط الصراع بين قوى تُملي إملاءاتها من وراء الستار.
إن السلام المفروض من الأعلى، الذي يُسرق من إرادة الشعوب وقناعاتها، وإن بدت مرآته لامعة، فهو في جوهره فارغ، هش سريع التفتت. لحظة الحقيقة التي ستكشف عن خدعة "الحماية" ليست ببعيدة، حين تدرك الأنظمة أن ما وُعدت به ليس سوى قيد جديد يُكبّل حرية قرارها، وتجد نفسها عالقة في مواجهة شعوبها الثائرة التي لم تعد تطيق هذه المصالح المبنية على الغبن والاضطهاد. تلك الشعوب التي سجلت في ذاكرتها حقًا لا يموت، ولو طال الزمن، وتشبثت بكرامة مسلوبة لا تُباع ولا تُشترى.
لقد عزفوا ألحانهم على طاولات مصقولة، لكنها تبدو واهيةً أمام نهر التاريخ الجارف الذي يحمل في جوفه تيارات غضبٍ ستجرف كل السدود البالية. والسؤال لم يعد "هل" ستنهار هذه المنظومة، بل "متى" سيصبح سقوطها واقعًا لا مهرب منه؟ ومن سيدفع فاتورته كاملة؟
فالصراع الذي يُخفى وراءه دعاة سلام هم دمى الحرب، هو صراع ذاكرة الشعوب التي لا تنسى، وذاكرة الساسة المتصنعة والمتحايلة على الواقع. لن تنجح التخديرات ولن تفلح الواسطات في دفن الحقوق التي تكبر مع كل جيل جديد. إن السلام الحقيقي ليس صفقة تُكتب على الطاولات، بل هو انتزاع من قلب المستحيل، ونصرة للعدالة والكرامة التي لا تقبل المساومة أو الخضوع.
المصدر عثمان الحكيمي
زيارة جميع مقالات: عثمان الحكيمي