عثمان الحكيمي

عثمان الحكيمي / لا ميديا -
في عالم السياسة، لا تُبنى المواقف بالنوايا الطيبة، ولا بالبيانات الختامية الهزيلة والإنشائية، ولا بالخطب الرنّانة والشجب، بل تُفرض بتوازنات القوة. حقيقةٌ مُرّةٌ تجاهلتها قمة الدوحة، فخرج بيانها مجرد أمنيات لا مكان لها على طاولة التوازنات. ليس الأمر عجيباً؛ فالقمم العربية الإسلامية اعتاد حاضروها أن يجتمعوا ثم يخطبوا ويُندّدوا تحت أضواء الكاميرات وبريق الثريّات.
 نعم، لقد تحوّلت القمم العربية والإسلامية إلى طقسٍ سياسيٍّ متكرّر؛ لتكون نتائج قممهم عبارةً عن «قلق» و»إدانة» و»مطالبة» للمجتمع الدولي، الذي لا يسمع إلا صوت القوة. انفضّ السامر، وأُسدلت ستائر المسرحية الهزلية. عاد كل زعيم إلى قصره، تاركاً خلفه ورقةً لا تُشبع جائعاً ولا تردع عدوّاً. لكن السؤال الحقيقي ليس ما قيل، بل ما لم يُقَل؛ ليس ما كُتب في البيان، بل ما سيُكتب على الأرض: بعد أن هدأت عاصفة الإدانات، وانقشع غبار الكلمات، ما الذي تغيّر حقّاً في معادلة الصراع؟!
إن الإجابة على هذا السؤال تكشف عن أزمة بنيوية متجذرة تتجاوز مجرد الإرادة السياسية الآنية. فالفشل ليس وليد «قمة الدوحة»؛ إذ إن العالم العربي والإسلامي يعاني من فراغ استراتيجي مدوٍّ. فبينما كانت الحروف تُصفّ بعناية في الدوحة، كانت «تل أبيب» ترسم على الخريطة خطوطاً جديدة بالحديد والنار، مدركةً أن الصمت الذي يعقب كل قمة ليس صمت سلام، بل هو فرصة ذهبية لفرض وقائع جديدة. إنها لا تقرأ البيانات، بل تقيس الفجوة بين الأقوال والأفعال، وكلما اتسعت هذه الفجوة، زادت شهيتها للتوسع. لقد أصبحت القمة مجرد أداة لتخدير الشعوب، ومنصة لإعلان العجز بلغة القوة، وشاهد إثبات على أن هذا الجسد المترامي الأطراف قد دخل في موت سريري استراتيجي. وهكذا، لم يتغير شيء على الأرض، بل ترسّخت قناعة لدى العدو قبل الصديق، بأن هذه الأمة قد أتقنت فن الاجتماع على «ألّا تجتمع»، واتحدت على «ألّا تتحد»، إلا على ورقةٍ ستُنسى قبل أن يجف حبرها. فإلى متى ستظل قممُنا مجرد شاهد زور على تاريخنا؟!

غزة تحت القصف
بينما كانت الكلمات تُصَف بعناية في قاعات الدوحة، وتُصاغ بيانات الشجب بلغة دبلوماسية، كانت الأرض في غزة تشتعل تحت جنازير آلة الحرب «الإسرائيلية». لم تنتظر حتى يجف حبر القمة؛ فمع كل كلمة «قلق» كانت تُطلق قذيفة، ومع كل «إدانة» مرتجفة كانت دبابةٌ تتقدّم خطوةً أخرى نحو قلب القطاع. إنها مفارقة دامغة: دبلوماسية تُراوح مكانها بين الألفاظ، وعدوّ يرسم وقائع لا يملك البيان الختامي أن يمحوها. لقد أعلن الكيان الصهيوني مرحلة جديدة من التوغل البري لتمزيق ما تبقى من جسد غزة، وفرض واقع جديد قوامه الطرد القسري والتهجير الممنهج.
لم تكن الأوامر بإخلاء الأحياء سوى إعلان عن بدء موسم حصاد الأرواح، حيث يتحول آلاف المدنيين إلى قوافل من الهائمين على وجوههم في طرقات الموت، يبحثون عن ملاذ لا وجود له إلا في بيانات القمم العربية والإسلامية. عقيدة الكيان الصهيوني الشيطانية تُطبق على مرأى ومسمع من العالم: تفكيك بنية المقاومة عبر تفكيك بنية الحياة ذاتها، وقصف يمهّد الطريق لتقدم بري يهدف إلى ابتلاع الأرض ولفظ سكانها. إن هذه الخطة تهدف إلى تهجير السكان، القضاء على أي شكل من أشكال المقاومة، ونزع سلاحها، لضمان بسط السيطرة الكاملة على القطاع وإحكام الهيمنة على واقعه. وهكذا، تكشّفت الحقيقة في أبشع صورها: قمماً عربية تصوغ أوراقاً تصلح للأرشيف، وكياناً صهيونياً يفرض على الأرض هندسة ديموغرافية جديدة بالنار والتهجير. والنتيجة الميدانية؟ تهجير يتسارع، وشعب يُسحق، وإنسانية تُذبح على مذبح العجز العربي والإسلامي، قبل أن تجد قرارات القمم طريقها إلى سلة مهملات التاريخ.

هدير الصواريخ اليمنية
في خضم العجز المطبق للقمم العربية الإسلامية، الذي لَفَّ عواصم القرار، وفي الوقت الذي كانت فيه القمم لا تجيد سوى لغة الشجب الخجول، انطلق صوت آخر من اليمن، ليتحدث باللغة الوحيدة التي يفهمها العدو. فبينما كانت بيانات الدوحة تُحبَر، كان الناطق العسكري للقوات المسلحة اليمنية يعلنها صريحة: صاروخ يمني أُطلق نحو الكيان الصهيوني رداً على جرائم «إسرائيل» في غزة، ورداً على اعتداءات قام بها الكيان الصهيوني على ميناء الحديدة.
هنا تتجلّى المفارقة في أقسى صورها وأكثرها إيلاماً. ففي حين اجتمعت دول بأكملها لتصدر ورقة لا تسمن ولا تغني من جوع، تحرك طرف واحد، محاصر ومثقل بجراحه، ليرسل نيرانه عابرةً آلاف الكيلومترات. لم يكن هذا الرد اليمني مجرد عمل عسكري، بل كان بمثابة صفعة مدوية على وجه المنظومة العربية والإسلامية الرسمية؛ صرخة عملية تقول إن الإرادة حين توجد تخلق الفعل، وأن القوة ليست حكراً على من يملكون أحدث الترسانات، بل على من يمتلك قرار استخدامها.
لقد كشف هذا المشهد عن عمق الهوة بين «رجال القمم» ورجال الميدان؛ بين منطق تدوير الزوايا وتبريد الجبهات، ومنطق الاشتباك وفتحها. وهكذا، بينما كانت القصور تكتفي بالبيانات، كانت الجبال قد قررت أن يكون لها صوت، صوتٌ من نار، أثبت للجميع أن العجز ليس قدراً، بل هو خيار إرادة بامتياز.

أترك تعليقاً

التعليقات