محمد محمد السادة

السفير محمد السادة / لا ميديا -
قد يكون من المُتوقع تعثر الجهود الدبلوماسية للمبعوث الأمريكي إلى اليمن ليندر كينج في بداية مهمته، ولكن ما لم يكُن مُتوقعاً هو السقوط المبكر للمبعوث في أول اختبار لجدية النوايا الأمريكية في إحلال السلام في اليمن؛ فمنذ إعلان الرئيس الأمريكي بايدن توجه إدارته نحو تفعيل جهودها لإنهاء الحرب على اليمن، تقود واشنطن بمعية وكلائها في المنطقة مناورة سياسية ودبلوماسية شاملة ضد صنعاء بأدوات إنسانية مُعلنة، وأهداف سياسية غير مُعلنة.
مساران، إنساني وسياسي، أعلنت عنهما واشنطن في التعاطي مع الملف اليمني. ومُلخص المسار الإنساني ما قاله وزير الخارجية الأمريكي بيلنكن في كلمته أمام مؤتمر المانحين حول اليمن في بداية آذار/ مارس الجاري: "إن المساعدات الإنسانية لوحدها لن تُنهي معاناة اليمن، بل يجب إنهاء الحرب". ولكن مع كل تصريح إنساني تجاه اليمن هناك عمل أمريكي مضاد، فإعلان واشنطن القيام بجهود لتخفيف المعاناة الإنسانية، واستئناف ما سمته مساعداتها للمناطق الشمالية، تُرجم من خلال فرض أعلى مستويات الحصار منذ بدء العدوان في 2015، والمنع الكلي لدخول سُفن الوقود الحاصلة على تراخيص أممية إلى ميناء الحديدة مما يُفاقم الوضع الإنساني، لاسيما في القطاع الصحي، بل إن ليندر كينج، المقرب من الرياض، يتمادى ويسخر من ضحايا الحصار بوصفه لقيادة تحالف العدوان بأنها متعاونة. 
المُناورة في المسار السياسي لا تختلف عنها في المسار الإنساني، فتصريحات وزير الخارجية بلينكن، وجهود وجولات المبعوث ليندر كينج في المنطقة، توجت بسقطة مكشوفة لتعقيد المسار السياسي، من خلال تبني وإعلان خطة أممية قديمة للسلام تختزل مصالح طرف واحد فقط هو تحالف العدوان، وتقديمها للطرف الآخر (صنعاء) الذي رفضها شكلاً ومضموناً. أما اشتراط ليندر كينج عودته إلى المنطقة بقوله: "عندما يكون الحوثيون مستعدين للسلام" فهي سقطة ثانية، وإن اعتقد مخطئاً أنه بذلك يرمي الكرة في مرمى صنعاء، التي أعادتها إليه من خلال تسليمه رؤيتها وموقفها الثابت لإحلال السلام وخوض أي مفاوضات من خلال ضرورة الفصل بين ما هو إنساني وما هو سياسي وعسكري، والتزامها بأي مبادرة لوقف شامل لإطلاق النار مُتزامن مع الرفع الفوري للحصار كأرضية مشتركة تُعبر عن النوايا الحسنة لكل الأطراف، عدا ذلك فمن المُستحسن ألا يعود ليندر كينج إلى المنطقة وعليه توفير الوقت المُهدر في تبني مبادرات ورؤى تتجاهل المعطيات الجديدة التي فرضتها صنعاء بقيادة مكون أنصار الله الذي وصفه ليندر كينج بقوله: "إنه لاعب أساسي ولا يُمكن العمل بدونه"، لتكون هذه الحقيقة الوحيدة في مُجمل طرح ليندر كينج الذي فشل في محاولة الظهور بمظهر الوسيط الراعي للسلام ليُثبت أنه طرف مُفاوض وخصم يُمثل دول تحالف العدوان.

صنعاء صاحبة اليدُ الطُولَى في السلام
بعد 6 سنوات من العدوان والحصار، والمعاناة الإنسانية التي يعيشها اليمن، وحقيقة الفشل العسكري، بدأ الحديث الأمريكي - السعودي الرسمي عن مبادرات السلام وإنهاء المعاناة الإنسانية التي لن تُنهيها مجرد تصريحات ومبادرات للاستهلاك الإعلامي والسياسي، فواشنطن تسعى لإيهام المجتمع الدولي من خلال تسويق رغبتها بإحلال السلام في اليمن، ولكن الوقت كفيل بكشف أنها مُجرد رغبات يعوزها الإرادة في العمل.
صنعاء هي السباقة بطرح المبادرات ومد يد السلام، حيث قدمت في أيلول/ سبتمبر 2019 مبادرة الرئيس المشاط المتضمنة وقف استهداف الأراضي السعودية، تلا ذلك طرحها لوثيقة مبادرة الحل الشامل في نيسان/ أبريل 2020 التي يتفوق مضمونها على المبادرات المقدمة من دول التحالف والأمم المتحدة، رغم أنها لا تُمثل سوى الحد الأدنى من تطلعات اليمنيين. وفيما يخص مأرب فقد استبقت صنعاء التباكي الأمريكي والأممي على مأرب بطرح مبادرة تحفظ أرواح أبنائها المدنيين والنازحين في مأرب، حيث أطلقت في أيلول/ سبتمبر 2020 مبادرة النقاط الـ9، الأمر الذي يشهد بأن معركة مأرب كانت ولاتزال مستمرة، ويُدلل على النوايا الصادقة للسلام لدى صنعاء التي ترفض الانتقائية الأمريكية والأممية والنظر بعين واحدة في التعاطي مع الوضع الإنساني القائم على كامل الرقعة الجغرافية لليمن وليس في مأرب فقط.
مبادرتان تكتيكيتان بفاصل زمني قصير صادرتان عن واشنطن والرياض لا تحملان أي جديد، عدا المناورة والتلميع السياسي والإعلامي أمام المجتمع الدولي، مع محاولة إظهار صنعاء بأنها المُعطل لجهود السلام، لممارسة ضغوط دولية على صنعاء لوقف الانتصارات في مأرب والعمق السعودي، وتحقيق مكاسب سياسية أخفقت في تحقيقها الترسانة العسكرية الضخمة لتحالف العدوان، لذا ليس من المُستبعد محاولة تتويج تلك المناورات السياسية لدول التحالف بقرار من مجلس الأمن الدولي ضد صنعاء، وعليه نعتقد أن من الأهمية بمكان قيام حكومة صنعاء بعقد مؤتمر صحفي لإيضاح موقفها أمام المجتمع الدولي، وإعادة طرح مبادرتها للحل الشامل بعد تنقيحها إن تطلب الأمر ذلك. وبالوقوف على مبادرة الرياض نجد أنها:
- لم تأت بجديد، كونها مستمدة من مبادرة الإعلان المشترك للمبعوث الأممي، وتُعد خطوة شكلية تهدف لرمي الكرة من جديد في مرمى صنعاء التي رغم رفضها للمبادرة إلا أنها تتطلع لتحريك المياه الراكدة من خلال استمرار التواصل مع الرياض ومسقط وواشنطن للتوصل إلى اتفاق سلام عادل ومُشرف يُنزل النظام السعودي من على برجه العاجي.
- المبادرة سعودية -أمريكية- أممية تُمثل أطراف العدوان وتحالفه بمن فيهم ما يُسمى الحكومة الشرعية اليمنية.
- تعكس المبادرة إصراراً غير منطقي على إضفاء الصبغة المحلية على الأزمة اليمنية، وتصويرها بأنها حرب يمنية - يمنية، وإسقاط تحالف العدوان كطرف رئيسي في الحرب.
-  المبادرة سطحية، وغير واضحة، وتفتقد للتفصيل وآليات التنفيذ، لذا فهي ليست مبادرة لحل سياسي شامل.
- لا تنص المبادرة صراحة على إنهاء كافة العمليات العسكرية للتحالف في اليمن، كما لا تنص صراحة على رفع الحصار البري والبحري، حيث تُشير لإعادة فتح مطار صنعاء الدولي لعدد من الرحلات فقط، وتخفيف الحصار على ميناء الحديدة وليس الرفع الكامل للحصار عنه.
- تستند المبادرة إلى مرجعيات لا تؤسس لسلام عادل ولا تواكب المتغيرات، وتتجاهل المعطيات الجديدة، كما أنها محل رفض قاطع من قبل المجلس الانتقالي الجنوبي، الشريك الرئيسي في حكومة هادي، والبديل الذي يجري تهيئته ليحل محلها في الجنوب.
- تجاهلت المبادرة النظام السعودي كطرف يقود التحالف، في تنصل واضح عن المسؤولية القانونية والأخلاقية تجاه ما ارتكبه من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بحق الآلاف من اليمنيين، وتدميره للبُنى التحتية مسبباً خسائر مادية فادحة بمليارات الدولارات.
منطق العقل لا يقبل أن يكون الخصم هو الحكَم، كما أنهُ "لا مبادرة" في ما تكفله التشريعات والقوانين الدولية من أبسط حقوق الإنسان، فالمقايضة بالجانب الإنساني الذي تضمنتهُ مبادرة الرياض يُعد سقوطاً أخلاقياً، وجريمة تُضاف للجرائم التي تُقرها المبادرة في فرض الحصار الإنساني كإغلاق مطار صنعاء ومنع دخول سفن الوقود والغذاء لميناء الحديدة، في انتهاك صارخ للقوانين الدولية ذات الصلة، لذا فالرفض المُتبادل بين صنعاء ودول تحالف العدوان للمبادرات الصادرة عن كلا الطرفين يدعو للتطلع لإطلاق مبادرة من طرف دولي ثالث "مُحايد"، مع تأكيد الحاجة المُلحة لإجراءات بناء الثقة من قبل كل الأطراف المعنية تمهيداً لاستئناف عملية المفاوضات، من خلال ما يلي:
- إعلان قيادة تحالف العدوان إنهاء كافة عملياتها العسكرية الجوية والبرية والبحرية في اليمن، مع رفع الحصار الشامل، وإعادة فتح مطار صنعاء الدولي أمام حركة الملاحة الجوية، بالإضافة لرفع الحظر عن ميناء الحديدة أمام حركة الملاحة البحرية.
- بدورها تُعلن صنعاء وقف كافة عملياتها العسكرية الجوية والبرية والبحرية تجاه السعودية. 
- وقف شامل لإطلاق النار في كافة الجبهات العسكرية الداخلية في اليمن.
ختاماً، فإن صنعاء، التي تحيي الذكرى السادسة لليوم الوطني للصمود في وجهة العدوان، تُبدي استعدادها للتواصل المباشر مع واشنطن والرياض كمحاولة لالتقاط أي فرص للسلام، وإن كانت احتمالات نجاحها ضئيلة كونها صادرة من أطراف معتدية، وتفويت الفرصة على أولئك الذين يُجيدون الصيد في الماء العكر، ويسعون لإظهار صنعاء بمظهر المُعطل لجهود السلام وإن كانت "زائفة". ولكن استمرار المُناورات السياسية، والإصرار على اختزال السلام في الرؤى الأمريكية - السعودية قد يضطر صنعاء لمقاطعة مُبكرة لمُمثل تحالف العدوان المبعوث الأمريكي ليندر كينج، على غرار مقاطعتها لزميله الأممي غريفيتث الذي ابتعد في مُهمته عن المهنية والحياد، وعندها لن يبقى لدى صنعاء سوى تعزيز المُضي في خياراتها العسكرية، ورهاناتها على عدالة قضيتها التي ستنتصر في نهاية المطاف، وتفرض الحلول التي أخفقت في تحقيقها الخيارات السياسية والدبلوماسية. 

أترك تعليقاً

التعليقات