محمد محمد السادة

السفير محمد محمد السادة / لا ميديا -
تُدرك صنعاء، ومنذ اليوم الأول للعدوان، أن تقسيم اليمن، والسيطرة على مضيق باب المندب، واحتلال موانئه وجُزره الحيوية، أحد الأهداف الرئيسية لشن العدوان بقيادة دول الرباعية التي تضم الولايات المتحـــدة، بريطانيــــا، السعوديـة، والإمــارات، التــي تتبادل الأدوار العسكريــــة والسياســـية الرامية لتشظية اليمن وإخضــاعـــه، وفــرض سيادتها على موقعه الجيوسياسي الحيوي وثرواته الطبيعية.
لذا ورغم ظروف العدوان والحصار تمكنت صنعاء من قطع شوط في إعادة بناء استراتيجيتها البحرية، وقدراتها العسكرية، التي تُثبت بشكل متصاعد كفاءة وقدره متنامية على الردع، وبما يُلبي متطلبات المعركة التي شهدت تحولاً ملحوظاً بفعل الانتصارات العسكرية والاستخباراتية النوعية لصنعاء، وضرباتها العسكرية التي طالت أهدافاً حيوية في العمقين السعودي والإماراتي ضمن بنك أهداف يشمل مصالح رباعية العدوان في البر والبحر.
كما كشفت العروض العسكرية الضخمة التي شهدتها صنعاء والحديدة مؤخراً عن منظومات أسلحة جديدة بحرية وجوية عالية الدقة، كصواريخ "روبيج" الروسية المضادة للسفن، وصواريخ "ذو الفقار" البالستية التي لا تتجاوز دائرة الخطأ في إصابتها 10 أمتار، الأمر الذي يعني دخول الحرب مرحلة جديدة من الردع، وفرض قواعد اشتباك جديدة تؤكد من خلالها صنعاء عزمها على إنهاء العدوان والاحتلال، وتأمين الجزر والمياه الإقليمية اليمنية، بالإضافة لإنهاء الحصار الإنساني غير المشروع على الموانئ اليمنية.
يُعد الوجود العسكري للولايات المتحدة في منطقة البحر الأحمر وخليج عدن أبرز تهديدات الأمن القومي لليمن والمنطقة، حيث تسعى واشنطن لاستمرار هيمنتها البحرية في المنطقة، من خلال دعم وجودها العسكري بتحالفات تضم دولاً من داخل وخارج المنطقة في إطار قوات المهام المشتركة التي أنشأتها، وعددها ثلاث قوات (CTF 150, 151, 152) لتسيير دوريات بحرية يُفترض أن تقوم بها قوات خفر السواحل التابعة لدول المنطقة. كما تم إنشاء قوة المهام المشتركة الرابعة في نيسان/ أبريل الماضي (CTF 153) للقيام بدوريات في الممر المائي بين مصر والمملكة العربية السعودية عبر مضيق باب المندب إلى قبالة الحدود (اليمنية ـ العُمانية)، وأسندت واشنطن قيادة هذه القوة لمصر بدءاً من الشهر الجاري تشرين الثاني/ نوفمبر. بالإضافة إلى ذلك أجرت واشنطن هذا العام عدة مناورات عسكرية في البحر الأحمر بمشاركة حلفائها، وفي مقدمتهم العدو الصهيوني، الذي يُعاود طرح مشروع "تدويل مياه البحر الأحمر"، الذي سبق أن رفضته الدول العربية.
من جانب آخر فهناك طموحات (صينية ـ روسية) متنامية لحضور أكبر في البحر الأحمر، مدفوعة بالمتغيرات الدولية الجديدة التي تقودها هاتان الدولتان من أجل إعادة تشكيل النظام الدولي.
لذا من المتوقع في ظل هذه المعطيات تصاعد التنافس الدولي العسكري والأمني في البحر الأحمر وخليج عدن، وتنامي حجم الوجود العسكري للقوى الكُبرى، وتزايد عملية الاستقطاب التي حذر من مغبتها كبير مسؤولي السياسة في البنتاجون الأمريكي، كولن كال، خلال أعمال حوار المنامة للأمن الذي عُقد مؤخراً، حيث اعتبر (كال) أن التعاون الأمني لشركاء الولايات المتحدة في المنطقة مع الصين يضر بتعاونهم الأمني معها، ويضر بأمنها القومي، الأمر الذي يؤكد المخاوف الأمريكية من تزايد النفوذ الصيني، ومزيد من التوتر في المنطقة قد يتطور لنوع من الصراع العسكري الدولي الذي سينعكس سلباً على الأمن البحري للمنطقة عموماً واليمن خصوصاً.

طموحــات صنعــاء في توظـيف موقع اليمن الحيوي
تاريخياً لم يستفد اليمن من موقعه الجيوسياسي الحيوي الذي يضم البحر الأحمر، الذي كان يُسمى "بحر اليمن"، إلى جانب بحر العرب والمحيط الهندي، فاليمن هو بوابة البحر الأحمر إلى المحيط الهندي، والمتحكم بمضيق باب المندب كأحد أهم المضائق الدولية التي تربط حركة الملاحة وإمدادات النفط بين شرق العالم وغربه، فهذه الأهمية الجغرافية هي التي جلبت الغزاة والمحتلين، فكان البحر الخاصرة الرخوة لليمن، والتهديد الرئيسي لأمنه القومي، لاسيما في ظل عدم امتلاكه للقوة البحرية. وإدراكاً منها لتلك الحقائق تُكرس صنعاء جهودها لبناء قدرات عسكرية بحرية تجعل من اليمن دولة بحرية قوية، حيث وصلت تلك الجهود -كما أعلن رئيس المجلس السياسي الأعلى، مهدي المشاط- إلى القدرة على ضرب أي نقطة في البحر الأحمر الذي يمتد بطول 1900 كيلومتر، وبذلك يكون التواجد العسكري الأجنبي في مرمى ضربات صنعاء.
أثبتت صنعاء وبشكل عملي، من خلال عملياتها العسكرية النوعية في البحر الأحمر ضد أهداف مُعادية، قدرات عسكرية واستخباراتية عالية لا يُمكن معها بأي حال من الأحوال إلا أن تكون حاضرة بقوة لحماية أمن الجُزر والمياه الإقليمية كجزء من أمن اليمن القومي، والاضطلاع بدور رئيس في حماية أمن البحر الأحمر، بالإضافة لممارسة صنعاء حقها السيادي المشروع في تأمين مضيق باب المندب، والإشراف على حركة الملاحة الدولية فيه، بما يُعزز الأمن البحري ويُحقق مصالح مشتركة دولية ـ يمينة.
على مدى 8 سنوات من العدوان على اليمن أثبتت صنعاء التزامها بالاتفاقات والقوانين الدولية ذات الصلة بالأمن البحري، مع عدم إخلالها بحقوقها السيادية المكفولة أيضاً بموجب التشريعات الدولية والتشريعات اليمنية، فكانت عمليات الرد العسكرية التي قامت بها صنعاء في البحر الأحمر ضد القوى المعادية ومصالحها في إطار تلك التشريعات، دون تعطيل حركة الملاحة الدولية في مضيق باب المندب أو إغلاقه، الأمر الذي يضر بالمصالح الدولية، ويُمكن أن يتسبب بخسائر يومية في النقل البحري تُقدر بـ50 مليون دولار.
وبالمثل، فصنعاء التي تحترم المصالح الدولية في البحر الأحمر لن تسمح بالإضرار بمصالحها الوطنية داخل المياه الإقليمية اليمنية، ومن ذلك إعلانها مؤخراً منع دخول السفن الأجنبية للموانئ اليمنية لنهب النفط اليمني، لاسيما في ظل استمرار حرمان موظفي الدولة من رواتبهم نتيجة عدم التوصل إلى اتفاق لتمديد الهدنة، رغم أن مفاوضات تمديدها وصلت إلى "مستوى جيد"، كما قال رئيس المجلس السياسي الأعلى مهدي المشاط، إلا أن التعنت الأمريكي لا يزال يقف حائلاً دون التجاوب مع مطالب صنعاء المشروعة، وفي مقدمتها صرف الرواتب من عائدات النفط والغاز، الأمر الذي دفع صنعاء لمخاطبة وتحذير الشركات الأجنبية العاملة في اليمن في مجال النفط وإلزامها بوقف أعمالها، ووقف عمليات التصدير، حيث نفذت صنعاء ثلاث ضربات تحذيرية بالطيران المسير نجحت في منع ثلاث سفن أجنبية من نهب النفط اليمني عبر مينائي الضبة وقنا، وتلا تلك الضربات تحذيرات قوية لرئيس حكومة صنعاء عبدالعزيز بن حبتور الذي قال: "المرات القادمة سيتم ضرب السفن التي تُصر على نهب النفط اليمني".
ختاماً، فتصريح رئيس هيئة الاستخبارات العسكرية والاستطلاع بصنعاء عبدالله الحاكم بأن المواجهة البحرية المتوقعة قد تكون من أشد المعارك مع العدوان، يُعد مؤشراً إلى أنه لا مناص من المعركة البحرية إلا بتفاهمات تتجاوب مع مطالب صنعاء المشروعة المُتمثلة في إنهاء العدوان، وخروج القوات المحتلة من الأراضي والجُزر اليمنية، وإنهاء انتهاكات السيادة للمياه الإقليمية اليمنية من قبل السفن الأجنبية العسكرية والتجارية، بالإضافة إلى رفع الحصار البحري غير المشروع عن الموانئ.
تستعد صنعاء لعقد المؤتمر الوطني للأمن البحري، الذي نتطلع إلى أن يكون من ثماره تكريس مزيد من الاهتمام بالكلية البحرية، وإنشاء مركز دراسات يُعنى بالأمن البحري، مع التوجه المدروس نحو عدم السماح باستمرار حرمان اليمن من حقه في توظيف موقعه الاستراتيجي الـذي يُمكنه من ممارسة النفوذ الخارجي، والقيـام بدور فعال في تعزيز الأمن والاستقرار على المستويين الإقليمي والدولي، رغم ما تحمله المعطيات الدولية الجديدة من تهديدات، لاسيما التزايد المتوقع للوجود العسكري الأجنبي في البحر الأحمر، وتصاعد المنافسة والاستقطاب الدولي، إلا أن المعطيات ذاتها يُمكن أن تُشكل فرصة سانحة لصنعاء لتجاوز العدوان وتداعياته، بل وتحول اليمن إلى قوة إقليمية ناشئة كطموح مشروع، وظروفه مُواتية.

أترك تعليقاً

التعليقات