أمين العباسي

أمين العباسي / لا ميديا -
في الحقيقة أن الوحدة حدثت نتيجة متغيرات دولية وإقليمية، كان أبرزها  تفكك الاتحاد السوفييتي دوليا،  وحرب الخليج الثانية إقليميا. 
كان لكلا النظامين ارتباطات إقليمية ودولية أدت متغيراتها إلى تقارب النظامين باتجاه تحقيق الوحدة، وهو ما حدث بالفعل في الثاني والعشرين من أيار/ مايو 1990؛ لكنها نشأت متعثرة في الأصل، بفعل الإرث الثقيل الذي راكمـــــه النظامان، شريكا الهروب إلى الوحدة، بغية التخلص من محمـــــولات ذلك الإرث. 
شكل ذلك مأزقا واقعيا جعلهما يستندان إلى إجراءات وخطوات توحيد “مسلوقة” دون تبصر فاحص للأوضاع، والواقع المركب والمعقد حد التشابك، على كل المستويات.

النظامان التشطيريان اعتقدا أن الوحدة ستكون بمثابة ملجأ يفرون إليه لتجاوز إخفاقاتهما، وقارب نجاة يقيهما حالة الانهيار الوشيكة التي كانت تحدق بكليهما، ولذلك عبرا الواقع إليها بخطى غير مدروسة، مثقلين بجل العوائق والصعاب، وكل الفشل الذي صاحب حكميهما لدولتي ما قبل الوحدة. أضف إلى ذلك أن كلا النظامين كان متربصا بالآخر، وهذا كله كان كفيلا بأن يفجرها من الداخل، ويتوجها بحرب ضروس شكلت بابا للولوج إلى الفرقة والشتات الذهني والوجداني وقبلهما الاجتماعي لليمنيين، نتيجة عملية الضم والإلحاق التي أعقبت الحرب من أحد أطراف الوحدة، الذي حاز الانتصار، وأثبتت سنوات ما بعد الحرب أنه كان يتسنم ركام المؤامرة على الوحدة من يومها الأول، يوم إعلانها، حيث لجأ إلى ممارسات أقرب ما تكون إلى التنكيل والانتقام، فاستباح وأباح الجنوب كله، أرضا وإنسانا وإرثا ماديا ومعنويا، بعد أن استباح دماء رجال الوحدة وطاقات بنائها، بسلسلة من الاغتيالات، قبل تعميد ذلك بالحرب.
إن تعثرات وإخفاقات ما قبل الوحدة شكلت أرضية متينة لما بعدها من عثرات وإخفاقات على مختلف الصعد. تعثرت الوحدة بعدد غير قليل من العوائق، كغياب المنهج العقلاني الموضوعي لتحقيقها، عدم القدرة على ترتيب الفضاء العام ما بعد إعلان الوحدة، التحالف الصلب للقوى التقليدية مقابل إخفاق القوى الوطنية وشبه الوطنية في تشكيل حد أدنى لأي نمط من أنماط التحالفات فيما بينها. كان للإخفاق السياسي الذي رافق عملية إجراءات إعلان الوحدة الدور الأبرز في مجمل الإخفاقات والتعثرات على كافة المستويات الأخرى، باعتبار أن السياسة وكل ما يرتبط بها من إجراءات تتعلق بتهيئة الوضع العام وترتب مناخات الانتقال السليم والموضوعي إلى فضاء الوحدة، تعمل على صياغة نظام إدارة دولة الوحدة بمقتضى الإصلاحات التي يجب أن تكون منطلقا وأساسا راسخا لبناء نظام دولة الوحدة السياسي، الذي بدوره سيحوز مجمل قواعد الفعل السياسي اللازمة للإصلاح الاقتصادي والاجتماعي والتنموي الشامل وغيرها على قواعد التوازن متعددة الأبعاد والأطر، كتوازن السلطات، مثلا، وتوازن القوى، التي تبدأ من مستوى التوازن الاجتماعى القائم على توازن أدوات القوة ذاتها، المتمثلة بقوة السلاح، تساويا أو تجريدا للجميع. هذا بديناميكيته سيؤسس لتوازن فوقي على المستويين الاقتصادي والسياسي، كفاية وعدالة في الإنتاج والتوزيع للأول، ومطلق الحق للجميع مشاركة في السلطة والمسؤولية بمستوياتهما المختلفة، من مجلس القرية وحتى رئاسة الدولة للثاني.
أما ما يتعلق بمستقبل هذه الوحدة فهو في اعتقادي مرهون بمقدماتها كنتيجة، والتي أضحت تشير إلى حالة سديمية، غير معلومة المآلات، خصوصا وقد صار الفعل ومردوداته، وكذا كافة أوراق اللعب، وخيوط المبادرة، بيد القوى الإقليمية، التي غدت تحكم وتتحكم بخطوات اليمنيين، وترصد حركتهم وكل إجراءاتهم، وهم منقادون لذلك كقطيع. وعلى هذه الخلفيات والمقدمات فلا مخرج يلوح في الأفق وصولا إلى أي صيغة من صيغ الدولة، ولو في شكلها البدائي، خصوصا عقب تلغيم مؤتمر الحوار وإفراغ مخرجاته من مضامينها شبه المنتصرة لحق اليمنيين في دولة يمنية موحدة يبنونها بأيديهم ويصوغون نظامها بإرادتهم، تماشيا مع تطلعاتهم ومصالحهم الجمعية. والواقع أن تلك المضامين تم تبخيرها في وضح نهار التوق إليها. قد أكون متشائما؛ لكن هذا ما استقرأته، على قاعدة حراك اليمن الحديث من أوائل الستينيات وحتى اليوم، في محطاته المختلفة والمتعددة، والتي كانت المؤتمرات، وبالذات مؤتمرات المصالحة جزءا منها، ابتداء من مؤتمر حرض، وانتهاء بمؤتمر الحوار الوطني الشامل. واحدة من نتائج ذلك الاستقراء أن تلك المؤتمرات لم تكن لتعالج أوضاع اليمن وحال اليمنين، بقدر ما كانت ترتب أوراق الإقليم السني، فما هو الحال الآن وقد غدت اليمن مسرحا للعراك الإقليمي بكارثتيه “الشيعي والسني” على حلبة رخوة، قد تودي بالجميع. الحقيقة الثابتة أن الوحدة اليمنية راكمت سلاسل من الإخفاقات والتعثرات أكثر مما حققت إصلاحات ومنجزات. ولهذا كله أسباب صنعته ودفعت به إلى واجهة المشهد، تحتاج دراسة متقصية مستفيضة. تتجلى على المشهد العام مفارقة غاية في الغرابة، تتمثل بالوحدة الاندماجية غير المدروسة عام 1990 على مستوى اليمن أجمع ومشروع الكونفدرالية في العام 2023 على مستوى الجنوب كرد فعل لما راكمته الوحدة من إخفاقات وتعثرات. وهذا يعبر عن حالة تراجع غير مسبوقة في التاريخ. حقيقة الحقائق أننا بكل تاريخنا ومحطات محاولة الانعتاق والفرص المهدورة المرافقة لكل ذلك، كنا ضحايا غياب الدولة الناتجة عن مشروع وطني جامع يؤمن ويسعى بصورة مطلقة إلى تحقيق العدالة والتعايش والمواطنة على قاعدة مشتركة من سلطة القانون وسيادة النظام المؤسسي ابتداء من السلطات الدستورية العليا ممثلة بالسلطات المركزية الثلاث (التشريعية، القضائية، التنفيذية) وانتهاء بالسلطات المحلية على مستوى القرى والمديريات، في صيغة موضوعية من التوازن الإيجابي الفاعل.

أترك تعليقاً

التعليقات