«شاذل طاقة» لحن عراقي الرني
 

أمين العباسي

أمين العباسي / لا ميديا -
«شاذل طاقة» وميض عراقي خاطف، حيث اختَطَف، واختُطِف بصورة دراماتيكية غرائبية؛ فقد اختطف هو المجد وحازه من أطرافه، أدبياً وسياسياً ومعرفياً، كما في العبارة الشائعة، واختطفه الموت قبل أن يكمل دورة اكتماله في الفضاءات الثلاثة الماثلة.
«شاذل جاسم طاقة» أحد الأربعة الكبار في العراق المؤسسين للقصيدة الحرة «الشعر الحر»، إلى جانب كل من بدر شاكر السياب وعبدالوهاب البياتي ونازك الملائكة، موصلّي الهوى والرؤى.
ولد بمدينة الموصل في العام 1929، وتوفي في العاصمة المغربية الرباط في العام 1974 بصورة مفاجئة. كان ذلك في اليوم التالي لوصوله إليها للمشاركة في اجتماع وزراء الخارجية العرب آنذاك. دارت شائعات وأقاويل حول وفاته، حتى قيل إنه مات مسموماً. والمذهل أن حادثة كهذه لم تلقَ حقها في التحقيق والبحث في الأسباب التي كانت وراءها والمؤدية إليها، لا من البلد المضيف (المغرب)، ولا من بلد الإيفاد (العراق)، قيل الكثير عنها، ومن ضمنها أن صراعات العراق البعثية التي توجت بمذبحة قاعة الخلد، كانت قد بدأت مبكرة بشاذل طاقة، الذي كانت تربطه بسياسيين ومثقفين وبعثيين سوريين علاقات وثيقة جدا. ومؤكد أنه إذا طال به العمر إلى يوم الخلد المشؤوم كان سيتصدر قائمة التصفيات إياها، التي راح ضحيتها 22 من خيار قادة حزب البعث العراقي، ولحقتها تصفيات فاقت المائتين من كوادر الحزب. في التصفيات اللاحقة لما بعد المجزرة قتل وزير الخارجية السابق لشاذل، مرتضى سعيد البياتي الحديثي، وبطريقة معكوسة تمت تصفية شفيق الكمالي، الوزير السابق لأكثر من وزارة في العراق، وأحد كبار الشعراء فيه أيضاً، ورئيس اتحاد الأدباء في العراق، ورئيس اتحاد الأدباء والكتاب العرب لفترة، وكاتب النشيد الوطني العراقي الذي تم اعتماده سنة 1981 وظل حتى العام 2003... دبّر المسيطرون لابنه الأكبر «يعرب» مكيدةً -كما قيل- على إثرها تم سجنه، وألحق به أبوه، الذي اتهم بمحاولة تهريب ابنه من السجن، فتمت تصفية الابن، وظل الأب في السجن إلى العام 1984، أفرج عنه بعدها وتوفي بصورة مفاجئةٍ عقب مغادرته السجن مباشرة دون أن يكون قد أصيب بـــداءٍ يعـــرف أو يذكر، بالكيفية والملابسات ذاتها التي حصلت لصديقه شاذل قبل عشر سنوات، مع فوارق ببعض التفاصيل. إلى جانب هذين الاثنين (شاذل طاقة وشفيق الكمالي) أنجز صقور بعث العراق عدداً من التصفيات، للكثير من قيادات الحزب، وبالذات التي كانت لديها آراء ومواقف حول خلافات وتوحيد شطري البعث في العراق وسورية، وكان فريق الصقور في بعث العراق -إن جاز الوصف- بقيادة صدام حسين ضد أي فكرة أو محاولة من هذا النوع، وكان هذا الفريق مسيطراً على الحزب وكافة أطره التنظيمية وكذا قراراته ومقاليد حركته ونشاطه. 
درس شاذل طاقة في مدارس العراق، وتخرج في دار المعلمين (كلية التربية) ببغداد في العام 1950 بتفوق، كما ورد في سيرته.
بدأ شاذل طاقة كتابة الشعر في سن مبكرة جداً، حيث بزغ نجمه عمودياً، تحول بعدها بفترة وجيزة إلى كتابة الشعر الحر، حيث نشرت له قصائد في الصحف المحلية في العراق آنذاك.
صدر له عدد من الدواوين الشعرية والمؤلفات والدراسات الأدبية، استهلها بعد تخرجه مباشرة بديوانه الأول «المساء الأخير» في العام 1950، تلاه ديوان شعري مشترك في العام 1956 بعنوان «قصائد غير صالحة للنشر» دار حوله جدل كبير، من العنوان حتى المضمون، وكان العنوان محل تهكم ومزاح، بسؤال استهجاني غير استنكاري، كيف تنشرون قصائد غير صالحة...؟ شاركه ذلك الديوان كل من يوسف الصائغ، عبد الحليم اللاوند، هاشم الطعان. في عام 1963 صدرت له المجموعة الشعرية الثانية «ثم مات الليل»، وفي 1969 صدرت له المجموعة الثالثة والأخيرة «الأعور الدجال والغرباء». ألّف كتابين، الأول صدر عام 1953 بعنوان: «تاريخ الأدب العباسي»، وهو مؤلف شبه نقدي، أو بالأحرى قراءة متأنية جداً في أدب العصر العباسي، بحسب مؤرخ الأدب العربي الدكتور شوقي ضيف، درس فيه المؤلف العصر العباسي الأول، جمعاً وتوثيقاً وتحليلاً لنصوص أدبية مختارة بعناية ودراية. الكتاب الآخر سماه: «في الإعلام والمعركة»، ألفه في العام 1969 وصدر عن وزارة الإعلام العراقية، وهو عبارة عن كتاب دعائي بحت. ترجمت أشعاره إلى عدد من اللغات الأجنبية، وكتبت عنه العديد من الدراسات، والأبحاث العلمية والنقدية. وفي عام 1977 أصدرت وزارة الثقافة العراقية أعمال شاذل الكاملة، قدم لها الصحفي العراقي سعد البزاز، ابن شقيقته.
في تجربته العملية تقلد عددا من المناصب: مديرا عاما لوكالة أنباء العراق، سفيرا لجمهورية العراق في روسيا، وكيلا لوزارة الإعلام العراقية، وكيلا لوزارة الخارجية، وختاما وزيرا للخارجية العراقية في العام 1974، وهي السنة نفسها التي توفي فيها بطريقة غرائبية جدا، كما يقال، وكما أشرت سالفا. ربطته علاقة صداقة وندية ثرية  بالشاعر العروبي الكبير نزار قباني، حيث كان لكلٍّ منهما صلات بالعمل القومي العربي إرثاً وفكرا وهوى، من خلال انتمائهما لحزب البعث العربي في العراق وسورية، كل بطريقته وقناعاته.
كان لشاذل طاقة وأسرته دور كبير في قران نزار قباني ببلقيس الراوي، التي كان قد رآها في إحدى جلسات مهرجان المربد مصادفة، ثم اختفت، فظل يسأل عنها متلهفاً للقائها وعرف عنها بعض المعلومات من بعض أصدقائه، فظل يرقب فرصة أخرى، حتى المهرجان التالي، حيث قرأ فيه قصيدته التي من ضمنها:
مرحبا يا عراق جئت أغنيك وبعض من الغناء بكاء
مرحبا، مرحبا.. أتعرف وجها حفرته الأيام والأنواء؟
أكل الحب من حشاشة قلبي والبقايا تقاسمتها النساء
كل أحبابي القدامى نسوني لا نوار تجيب أو عفراء
فالشفاه المطيبات رمادٌ وخيام الهوى رماها الهواء
سكن الحزن كالعصافير قلبي فالأسى خمرةٌ وقلبي الإناء
أنا جرح يمشي على قدميه وخيولي قد هدها الإعياء
فجراح الحسين بعض جراحي وبصدري من الأسى كربلاء
وأنا الحزن من زمان صديقي وقليل في عصرنا الأصدقاء
مرحبا يا عراق، كيف العباءات؟ وكيف المها؟ وكيف الظباء؟
مرحبا يا عراق، هل نسيتني بعد طول السنين سامرّاء؟
مرحبا يا جسور، يا نخل، يا نهر، وأهلا يا عشب، يا أفياء
كيف أحبابنا على ضفة النهر وكيف البساط والندماء؟
كان عندي هنا أميرة حبٍّ ثم ضاعت أميرتي الحسناء
أين وجه في الأعظمية حلو لو رأته تغار منه السماء؟!

سعى بعدها نزار جاهدا، بمساعدة صديقه شاذل وأسرته، وآخرين، حتى تزوجها. وهناك رواية تقول بأن كل ذلك توج بتدخل الرئيس أحمد حسن البكر، الذي أرسل كلا من الشاعر ووزير الشباب شفيق الكمالي، والشاعر ووكيل وزارة الخارجية شاذل طاقة، إلى إبراهيم الراوي، والد بلقيس، لخطبتها، فوافق والدها وتحقق لنزار مبتغاه، بعد تكرار رفض آل الراوي لفكرة الزواج تلك، بناءً على اعتقاد الفوارق متعددة المنشأ.
بعد وفاة شاذل رثاه نزار بقصيدة محرِقة، حيث جاء في مستهلها قبل القصيدة، معزيا زوجته: «نعزيك بوفاة حبيبك وحبيبنا»، كما رثاه آخرون من الشعراء العرب والعراقيين بقصائد ألمٍ وحرقة. ولم نقف على بيان نعي رسمي لأدباء العراق أو اتحاد الأدباء والكتاب العرب، ناهيك عن بيان نعي رسمي للحكومة العراقية، أو الجامعة العربية.
ورغم ما حققه ووصل إليه شاذل على المستوى الرسمي والنخبوي؛ غير أن اسمه وشعره وسيرته ظلت محدودة التعاطي على المستوى الجماهيري، وكذا الثقافي في الساحة العربية، كغيره الكثير من الرواد العرب في الفكر والثقافة والأدب، أذكر بعضهم على التدليل لا الحصر: أحد رواد الرواية العربية وعالم المعادن السوري شكيب الجابري، ومواطنه الشاعر عبدالسلام عيون السود، والشاعرين اليمنيين عبد الرحمن فخري ويحيى البشاري، وآخرين كُثر ممن غلفهم النسيان ولفهم الصمت أو التغاضي بصورة مقصودة أو غيرها.
يعد شاذل طاقة من رواد الشعر الحر -كما ذكرت آنفا- على المستويين العراقي والعربي، وله محاولات جادة مهمة ومتميزة في تطوير البنية الإيقاعية الشعرية، للقصيدة الحرة، وقام بإنجاز اجتهادات عروضية نوعية مهّدت لمحاولات تالية أعقبته. وكما جاء في مقدمة مجموعته الشعرية التي صدرت عن وزارة الثقافة العراقية بعد وفاته: «كما كانت سيرته الذاتية نضالا دائبا في العروبة، كانت سيرته الشعرية بحثا دائبا عن القصيدة الأجمل والإنتاج الأروع». يرى الدكتور مالك المطُلبي في دراسة له بعنوان: «مدخل لدراسة التجربة العروضية في شعر شاذل طاقة»، والمنشورة في مجلة «الأقلام» العراقية في العام 1977، أن لشاذل طاقة إسهامات هامة في التجربة العروضية للقصيدة الحرة، حيث يعد أول من استخدم في قصيدته الحرة بحرا مركبا، في حين جرب شعراء بعده بعدة سنوات إخضاع القصيدة لبحر مركب. كما يخلص مستنتجا أن شاذل طاقة هو أول من وضع أساس النمط المزجي في العروض، الذي أدى بعدئذ إلى الإيقاعية في القصيدة الحديثة التي تطرح القصيدة بكل تفرعاتها كإيقاع واحد. وكما ورد في مقدمة ديوانه «المساء الأخير» قوله إن «هذا الضرب من الشعر (الشعر الحر) ليس مرسلا ولا مطلقا من جميع القيود، ولكنه يلتزم شيئا وينطلق عن أشياء. ولعل من حق الفن أن أذكر أن هذا الضرب ليس مبتكرا، فجذوره ممتدة في الشعر الأندلسي. هناك تبصير ملفت لبعض مؤرخي الآداب ونقادها يرى ضرورة إنجاز دراسات علمية موثقة عن كل مرحلة تشمل كل قطر وكل أديب من أدباء اللغات المختلفة، مهما كان حجم إنتاجه، توثيقا له ونتاجه، حفظا من الضياع، وصونا للحقوق، وهو ما حاول معجم البابطين إنجازه على مستوى الببلوجرافيا العربية، إنما من حيث الشمول فإن أعمالا كهذه تحتاج إلى مراكز بحث متخصصة وفرق بحث نوعية، مسنودة بمرجعيات معاجم اللغات الأكاديمية. أراني هوّمت كثيرا في معارج مختلفة، كحالة تشظٍّ ذهني ووجداني؛ غير أن لي مبرراتي على مستويي الذات والموضوع، أترك تفصيلاتهما لتعاطٍ آخر مغاير».
أورد تالياً مقطع من قصيدة طويلة لشاذل طاقة، الشاعر والسياسي والثائر، بعنوان: «الدم والزيتون»:

سلاما، أخت يافا حدّثينا، وعن يافا الحزينة خبّرينا
لقد كانت لنا أرض، وكان... وكان...
لبياراتنا قداحها الأرجُ
وقريتنا تضم الأقحوان ضحىً وتختلجُ!
وحل بأرضنا الطاعون والطوفان
وحوّم فوق قريتنا غرابٌ أعورٌ فلجُ!
وكان... وكان...
وذبّح إخوتي قرصان
ولم يدفنهمُ أحدُ
ولا خيطت لهم أكفان
ولم يحزن لهم أحدُ!
...
وقالوا: ما يزال بغرستي قداحها الأرجُ
وأرواح الأحبة من ضحايانا
تجف بها وتختلجُ!
...
وفي صحرائنا الطوفان
يسيل بنا فنرتعدُ، ونبتعدُ!
وتومض من بعيد واحة الغفران!
ذكرتهمُ، وقد قطعوا يديها
وقصوا ثديها وجديلتيها!
هو الحلمُ؟!
أم الأحزان تزدحم
فتختلط المشاهد؟! أم همُ التترُ
أتوا من بعد أحقابٍ؟!
أم التاريخ يختصر؟!

أترك تعليقاً

التعليقات