فاطمة رضا

د. فاطمة أحمد رضا / لا ميديا -

لم يسجل التاريخ الأثري العلمي الحديث دلالات لوجود الإنسان في شبه الجزيرة العربية بأكملها أقدم من تلك الآثار التي وجدوها في اليمن، والتي نُسبت إلى من يطلق الباحثون عليهم «مملكة سبأ»، والتي نشأت في الفترة ما بين 1300 و1000 قبل الميلاد، وقد نشأت مملكة سبأ في منطقة زراعية سابقاً، وكانت الزراعة تشكل مكاناً ملائماً لقيام الحضارات، حيث إن البشر كان أغلب اعتمادهم على الزراعة، وكانت اليمن ذات حظوة أكثـر من غيرها في هذا الجانب، ويقال إن أول حضارة بدأت تتشكل كانت «سبأ»، وضمت اتحاداً كان يشمل عدداً كبيراً من القبائل، كأول دولة بسيطة تشكلت حينها في جزيرة العرب. لكن مؤخراً ظهرت آراء علمية معترف بها دولياً تقول بأن «مملكة سبأ» لم تكن أول دولة تشكلت في اليمن، بل قال علماء الآثار بأن هناك دلالات لحضارات أقدم من سبأ، حيث وجدوا قبوراً في منطقة «إب» و»تعز»، وقاموا بتسميتها قبور «ميغاليت»، وتعود إلى العصر الحجري القديم.. ولازالت الدراسات بشأن تاريخ اليمن القديم في بداياتها مقارنة بباقي الحضارات الأخرى، فكثير من الأمور لاتزال تحتاج لبحث طويل، وقد تأخرت الاكتشافات بسبب ظروف الحرب.
تعرف قبور "ميغاليت" التي تم تحديد سجلها الأحفوري إلى أواسط الألفية الثانية قبل الميلاد، بأنها الأقدم، وتقع في منطقة "جبلة" تحديداً، وتعود إلى العصر البرونزي، وتسبق الممالك الخمس المعروفة، حيث وجدت أطلال لمدينة عتيقة في العام 2008، وفيها ما يشير إلى وجود عمارة بنيانية مندثرة ومبانٍ تحت التراب وخنادق تنتهي إلى مخابئ لتخزين الأمتعة الثمينة؛ ولازالت الأبحاث جارية حول هذه الحضارة الصغيرة من قبل علماء كثيرين، وقد توقفت في الحرب الأخيرة.
الكثيرون يعتقدون أن قسم الآثار اليمنية في متحف اللوفر في باريس يحوي آلاف الآثار، وهذا غير صحيح، فقسم آثار اليمن لا يشكل حتى 10% من الآثار المصرية هناك، ويحتوي قسم آثار اليمن بأغلبه على آثار العهد السبئي والحميري ودولة معين وقتبان وأوسان وكندة ودول متأخرة مثل الرسولية والصليحية. البعض كذلك يقول إن أغلب الآثار هناك لـ"مملكة سبأ"، وهذا غير صحيح، فأغلب آثار مملكة سبأ كانت قد اندثرت في الألف سنة التي تلت حكمهم، والنهب بدأ من السكان أنفسهم، لكن أغلب الآثار الموجودة في "متاحف فرنسا" تعود لبروز عهود ما بعد السبئيين، وأغلبها موجود بسبب فترة القنصليات المزدهرة في نهب آثار اليمن، والتي كونت "اللوفر" بقسمه اليمني. وبكل تأكيد تغلق فرنسا فصلاً في مسلسلها الشهير، وتفتح آخر، فلم تتعثر طويلاً، وابتكرت طريقة جديدة لمواصلة مسيرتها بجلب كل ما هو جديد من آثار اليمن، لتزويد المتاحف الفرنسية بالآثار اليمنية، وقد كانت عملية تقسيم الآثار المستخرجة من المواقع الأثرية إلى مهم وأهم وجيد الأهمية، من أصعب المراحل في تقسيمهم لآثار حضارات اليمن.
في السنوات ما بين 1859 و1875م، وصلت إلى متحف "اللوفر" أولى دفعات الآثار اليمنية القادمة من "مأرب" من معبد الشمس، وكان ذلك بداية انصهار الآثار اليمنية بالمتاحف الفرنسية الجديدة لنهب الآثار الناتجة عن البعثات الكشفية، وهي وسيلة خدعت بها فرنسا الشعوب في جلب الآثار اليمانية وغيرها من آثار الحضارات إلى متحف "اللوفر" ومتاحف فرنسا الأخرى، ولاتزال حتى اليوم تمارس هذه الوسيلة تحت مسميات مختلفة.
في ما بعد قام بتقسيم ملحق القسم اليمني في "اللوفر" الباحث الفرنسي "جوزيف هاليفي"، الذي يعتبر الأكثر إيغالاً في آثار اليمن، وقضى كل عمره بإرسال الآثار اليمنية إلى باريس، وقد جاء إلى اليمن موفداً من قبل متحفه لشراء عدد من التماثيل الحجرية لآلهة سبأ القديمة مثل "تمثال ألمقة" و"تمثال الوعل"، وذهب إلى صحراء مأرب وصرواح، وقام بحفائر عشوائية كثيرة في مأرب، مستعيناً بإرشادات الأهالي، وبالأموال التي معه استطاع تجنيد آلاف من القبائل، فعثر على "مذبح ألمقة"، فأخطر متحفه بذلك، فمده على الفور بالمال الوفير لمواصلة عملية "النهب المقدس".
وأسس "جوزيف" "مكتبة الآثار بصنعاء" و"ديوان المخطوطات" بضغط من الحكومة الفرنسية على حاكم صنعاء العثماني بذريعة الكشف عن الآثار لإبقاء "جوزيف" في صنعاء، وقد حصلوا فعلاً أيامها على أغلب ما يريدون من آثار، والتي هي معروضة حالياً.
ويكفي أن نعرف أن "جوزيف" وحده أرسل إلى فرنسا ما يقارب 6000 مخطوطة تاريخية. ولكي نعلم مدى الخسارة والتأثيرات التي ألحقها هذا الرجل بالآثار اليمنية والتاريخ اليمني القديم، علينا أن نقرأ عنه جيداً من كتب العثمانيين ووثائقهم التي وثقت تسليمهم إياه آلاف الوثائق، ويعتبر العثمانيون شريكاً في التفريط بالآثار اليمنية لتورطهم في تسليمها مقابل صفقات سياسية، فالآثار حينها كانت تعتبر ورقة ضغط سياسية مهمة، ولازالت حتى اليوم.
وثائق "جوزيف" تقول إن العثمانيين أعطوا للفرنسيين في تعز وحدها أكثر من 1000 لوحة للدولة الرسولية ومخطوطات تعتبر "الأندر" في الدولة الرسولية في تعز كلها، وتماثيل لحكام "قتبان ومعين وأوسان"، ومن لوحات لقصر غمدان، وعدد كبير من التماثيل الصغيرة الذهبية من منطقة "يريم"، والتي كان يحتفظ بها مشائخ المناطق كإرث قديم لدولة أسعد الكامل من مدافن الحميريين، وعددها بالمئات، وكل ذلك مذكور بالتاريخ في مذكرات "جوزيف".
دخل "جوزيف هاليفي" إلى اليمن في الفترة من 1910 إلى 1935م، متنكراً بزي يهود اليمن، ليستطيع التحرك بين القبائل، ومستغلاً التفكك والحرب بين الدولة القاسمية والعثمانيين. عمل الرجل في نهب الآثار مع آخرين، وحدثت زيادة عظيمة في حجم المجموعة نتيجة للتغيرات الإدارية الكبيرة الناجمة عن انسحاب العثمانيين من اليمن عام 1911م، فعملوا على زيادة عملهم، مستغلين انفلات وجود دولة لـ7 سنوات، حتى قامت الدولة المتوكلية عام 1919م، وبدعم من سايكس بيكو للحكم في شمال اليمن، تم منح "جوزيف" تحركاً رسمياً من المتوكليين تحت خدعة الفرنسيين المعهودة، وهي "حفريات تنقيب"، وتطبيق برنامج طموح لإعادة تنظيم المتحف وتزويده بالمقتنيات الجديدة، وبنهاية العام 1935م اكتشف المتوكليون أمر جوزيف، وتوقف عمله، وقبضوا عليه، فتعرض الفرنسيون لمأزق خطير سرعان ما تغلبوا عليه، فما فعله جوزيف بالاعتماد على مجموعات كبيرة من وثائق العصور المتأخرة لتزويد المتحف بها، كان الحل الأمثل لتلك المشكلة، وبالرغم من أن هذه الوثائق أقل جاذبية وإثارة للجمهور، فإن هذه النصوص "المسندية" و"الحميرية" و"السبئية" حوت ثروة كبيرة من المعرفة عن خصائص معينة في الحضارة اليمنية القديمة.
فبين 1911 و1935م، دخل المتحف عدد كبير من البرديات والأوستراكات والنصوص الخارجة من مستحوذات اليهود اليمنيين مقابل المال، وباستغلال جهل اليمنيين بالتراث، إلا أن الوحيدين الذين كلفوا "جوزيف" الكثير من المال والوقت هم "اليهود اليمنيون"، حيث إن اليهود وحدهم عرفوا قيمة المخطوطات، وكانوا يهتمون بالآثار أكثر من غيرهم، لخبرتهم في التاريخ والحضارات السابقة، فكانوا لا يبيعونها إلا بمبالغ مضاعفة وخيالية، وتمثل الآن تلك المخطوطات في مجموعها واحدة من أكبر المجموعات في هذا الجانب للشأن اليمني القديم بشكل عام في متحف "اللوفر"، وعن طريق الشراء من الأفراد دخل "اللوفر" عدد متميز من الآثار اليمنية القديمة، في ما بعد الثورة أيضاً، وما بعدها في عهد الرئيس صالح، تم شراء مجموعة كبيرة من الآثار، من مواطنين ومن السوق السوداء. 
ولطالما اهتم الفرنسيون بالآثار اليمنية دون غيرها، بسبب خصوصيتها بالنسبة للجزيرة العربية قديماً، وحتى آثار بعد الإسلام، فقد استطاع الفرنسيون شراء أقدم مخطوطة إسلامية، من مسجد صنعاء الكبير ومساجد أخرى، تتمثل بمصحف كامل للقرآن الكريم بخط الإمام علي، وأوراق لما يسمى "الجفر" من تجار آثار محليين، وتعتبر حالياً نسخة مصحف الجامع الكبير أقدم النسخ للقرآن الكريم على الإطلاق، ويتقاسم أوراقها متحف "اللوفر" مع "المتحف البريطاني"، كما تمكن الفرنسيون من شراء عشرات العملات القديمة والتماثيل الصغيرة الثمينة أثرياً بأسعار زهيدة تصل إلى 10 آلاف دولار لقطع يصل سعرها دولياً إلى عشرات الملايين من الدولارات.
وإذا ركزنا على النشاط الفرنسي في الآثار باليمن، نجد أنه بدأ منذ فترة مبكرة جداً، ربما تكون أولى محطاتها الحملة الفرنسية على شمال أفريقيا والشام، والآثار اليمانية في "اللوفر" جاءت من كل بقاع اليمن من أقصى الشمال إلى أدنى الجنوب، ومن أقدم العصور السبئية، وعصور ما قبل التاريخ، مروراً بالعصر العتيق وعصور الدول القديمة والوسطى والحديثة بما تخللها من عصور اضطراب، وحتى نهاية الأحباش والساسانيين، ثم العروج على آثار العصور الإسلامية، وحتى الأقيال وسلاطين عدن، ورحلات طريق البخور التي تبدأ على وجه التقريب منذ 7000 عام قبل الميلاد، وتمتد حتى 700 ميلادية، أي حوالي 70 قرناً، وهي عمر التجربة الحضارية اليمانية منذ عصور ما قبل التاريخ وحتى الفتح (الدخول الإسلامي)، مما أخذه الفرنسيون سواء بالتنقيب أو بالشراء من اليهود. 
إذن، هي رحلة زمانية مكانية، خاضها الفرنسيون في سبيل تكوين متاحفهم، وخسروا لأجلها المال والوقت والجهد، ويرون أن تسليمها محال بل شديد الاستحالة، ويخفون الكثير منها، بل الأغلب، ولا يظهرونها للعلن، لكنها مؤرشفة ضمن أرشيفهم، فعندما فرطنا بآثارنا كانوا هم من حافظ عليها طوال هذه السنين، ويرون أنه لا يحق لنا سوى النظر إليها فقط وتصويرها، بل يقولون إنهم يملكون حقوقها الملكية القانونية، فكيف نقنعهم بترك هذه الآثار!

(*) معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى
24 مارس 2019

أترك تعليقاً

التعليقات