فهد شاكر أبو راس

فهد شاكر أبوراس / لا ميديا -
بينما يتهادى البيان الدبلوماسي لرئيس الحكومة اللبنانية نواف سلام في أروقة «نيويورك تايمز»، محاولاً تقديم صورة التوازن المفتعل بين طرفي المعادلة، تبرز حقيقةٌ أصلد من أن تُختزل في مناورةٍ لغوية.
فالرجل الذي يفترض به أن يكون حامياً لسيادة بلاده وأمنه، يستسهل تمرير مقولةٍ تجعل من سلاح المقاومة، وهو درع الأمة الواقي وضمانة وجودها في مواجهة مشروع الإبادة الصهيوني، موضوعاً للمساومة أو للمقايضة مع انسحاب العدو.
وكأن هذا السلاح هو سبب الأزمة، وليس العدو الغاصب نفسه هو جذر كل أزمة.
الحكاية ليست حكاية دجاجة وبيضة، كما يريد أن يصوّرها البعض بتكرار أن «الإسرائيليين يقولون إنهم لا يستطيعون الانسحاب ما لم يتمّ نزعُ سلاحِ حزبِ الله، ويقول حزب الله: كيف يمكننا نزعُ سلاحِنا ما دام الإسرائيليّون لا ينسحبون؟!».
هذه الصيغة المغلوطة المتعمدة تختزل عقوداً من العدوان والمقاومة في معادلة شكلية تخدم الرواية الصهيونية أولاً وأخيراً.
فالحزب لم يقل في يوم من الأيام إنه سينزع سلاحه لو انسحب العدو، لأن السلاح ليس مجرد أداة لتحرير الأرض فحسب، بل هو ضمانة لاستمرار التحرير وردع العدوان المستقبلي.
لقد تحدث الحزب بوضوح استراتيجي عن «استراتيجية أمن وطني»، وهي الرؤية التي تضع القضية في إطارها الصحيح: إطار السيادة الوطنية الشاملة التي لا تكتمل بغياب العدو عن بعض الأرض، بل ببناء موازين قوى تمنع هذا العدو من العودة، وتحمي البلاد من تهديداته المستمرة.
إن ما يقوم به رئيس الحكومة، عن غير قصد أو ربما بقصدٍ يدركه هو وأسياده، هو فتح بابٍ خطير للمناورة بأمرٍ لا يقبل المناورة.
فليس من حق أحدٍ أن يتنازل عن ورقة القوة الوحيدة التي يمتلكها لبنان في مواجهة آلة الحرب الصهيونية المدعومة غربياً.
ويستذكر بذلك التزام 5 آب/ أغسطس الأسود، الذي لم يكن سوى طعنة في خاصرة المقاومة، فتح باباً واسعاً للمصائب والتدخلات الخارجية التي ما زال اللبنانيون يعانون من تبعاتها حتى اليوم.
ذلك القرار الذي أراد أن يضع المقاومة في قفص الاتهام، وكأنها طرفٌ معادِلٌ للعدو المغتصب، كان بدايةً لمسار خاطئ حاول أن يحول النضال من أجل التحرير إلى نزاع داخلي على السلطة والشرعية. اليوم، يعيدنا البيان الجديد إلى نفس الحلقة المفرغة، حيث يُطرح سلاح المقاومة كعقبة أمام السلام المزعوم، متناسين أن هذا السلاح هو الذي فرض على العدو الانسحاب من معظم الجنوب عام 2000، وهو الذي ردعَه عن شن حرب شاملة طوال السنوات الماضية، وهو الذي يحمي لبنان من مصير فلسطين المحتلة.
الحقيقة التي يتغافل عنها نواف سلام ومن يقف خلفه، أن العدو الصهيوني لا يفهم لغة المفاوضات والمؤتمرات إلا من خلال موازين القوى.
ولقد أثبتت التجربة أن كل ما تم الحصول عليه في تاريخ الصراع لم يكن بفعل الضغوط الدولية أو منطق الأمم المتحدة، بل كان بفعل ضربات المقاومة وحدها. فانسحاب العدو من الجنوب لم يكن هدية من المجتمع الدولي، بل كان نتيجة حتمية لضربات المقاومة المستمرة التي كبدت الاحتلال تكلفة باهظة لا يمكن تحملها.
وكذلك كان الانتصار في تموز 2006، الذي كسر أسطورة الجيش الذي لا يقهر، ووضع كيان العدو في مأزق استراتيجي لم يخرج منه حتى اليوم.
فكيف يُعقل بعد كل هذه الدروس أن نعود إلى مربع النقاش الفارغ حول نزع السلاح.؟!
إنه ليس سوى حلم قديم للقوى الدولية والإقليمية التي تريد تحييد لبنان، وإخراجه من معادلة الصراع مع العدو، لتسهيل عملية تصفية القضية الفلسطينية وفرض هيمنة المشروع الصهيوني على المنطقة.
إن الحديث عن «استراتيجية أمن وطني» التي يتبناها حزب الله هي الطريق الوحيد العقلاني والسيادي لحماية لبنان.
فهذه الاستراتيجية تعني أن يكون القرار الأمني بيد اللبنانيين أنفسهم، لا أن يُفرض عليهم من خلال قوى دولية تخدم في النهاية مصالح العدو.
ولذلك، فإن أية محاولة للالتفاف حول هذه الحقيقة، سواء أكانت من خلال تصريحات رئيس الحكومة أو من خلال أي ضغوط دولية، هي محاولةٌ فاشلةٌ سلفاً. فالشعب في لبنان لم يعُد ذلك الشعب الذي يمكن خداعه بالشعارات الجوفاء.
لقد رأى بأم عينيه كيف أن المقاومة هي التي تحمي كرامته وأرضه، وهي التي تعطيه وزناً في معادلة المنطقة.
ولقد آن الأوان أن يفهم الجميع أن سلاح المقاومة ليس مجرد خيار، بل ضرورة وجودية للأمة.
وهو الذي يحفظ للبنان كرامته واستقلاله الحقيقي، لا الاستقلال الشكلي الذي تمنحه الاتفاقيات الدولية ثم تسلبه حين تشاء.
إن معادلة «السلاح في وجه العدو فقط» هي المعادلة الوحيدة التي أثبتت جدواها، وأي خروج عنها هو خيانة للماضي وللحاضر وللمستقبل.
فليتقِ اللهَ أولئك الذين يريدون أن يناوروا بمصير الأمة، وليذكروا أن التاريخ سيسجل مواقفهم هذه، وسيحاسبهم عليها أبناء شعبهم قبل أي أحد آخر.
لقد كُتبت كلمات كثيرة، وخُطبت خطب أطول، ولكن في النهاية، يبقى صوت المقاومة هو الأعلى، وسلاحها هو الأبقى، لأنها تعبر عن إرادة شعب يرفض الموت، فيختار الحياة بكرامة.

أترك تعليقاً

التعليقات