يحيى اليازلي

يحيى اليازلي / لا ميديا -
"رمال متحركة" هي المجموعة القصصية الثانية للمبدع عبدالكريم الشهاري، وقد صدر له قبلها مجموعة قصصية بعنوان ''حياة عصرية''، ويستعد حاليا لإصدار رواية، واحتوت هذه المجموعة على عدد من القصص القصيرة والقصيرة جدا.
أربع قصص: ''الراقصة'' و''ندبة'' و''العالم الآخر'' و''قواعد معكوسة''، ركزت على موضوع الجماعات المتطرفة وتبعات الانخراط فيها.

"العالم الآخر"
هناك حوار دار بين طفلة وأمها في العالم السفلي الذي انتقلتا إليه بفعل انتحاري بواسطة الغاز.. بعد اتفاق الأب والأم والطفلة على الانتقال الجماعي إلى عالم الأموات.. وقد انتقلتا هناك بالفعل وكان من المفترض أن ينضم إليهما الأب إلا أنه خانهما وتخلف.
وتحكي حوارا بين طفلة وأبيها في العالم السفلي ''بعد الموت''.. الطفلة التي سبقت والدها إلى الآخرة بـ30 سنة، لكن تلك المدة، كما تقول، لا تعادل إلا ثلاثة أيام فقط، بمعيار العالم السفلي. القصة تطرح فكرة انتحار جماعي مبرم بين أفراد العائلة المكونة من الأب والأم والطفلة الذين قرروا الانتحار أيضا بالغاز نتيجة للظروف.. وقد انتقلت الطفلة والأم للآخرة على الفور، بينما لم يمت الأب وتم إسعافه ومعالجته وعاش بعد ذلك 30 عاما وتزوج مالكة العمارة التي كانوا يسكنون فيها.. وقد تحسن بعد ذلك وضعه المادي واغتنى وقام بالكثير من الأعمال الخيرية، من وجهة نظره، ومنها إنشاء معاهد لتخريج الدعاة، لكن تلك الأعمال لم تكن مما يوجب دخوله الجنة.. على أن هذا السرد جاء على لسان الطفلة، فقد كانت تشاهد وهي في العالم السفلي كل ما يفعله أبوها في العالم العلوي من خلال شاشة خاصة لا تظهر إلا لأطفال الجنة لرؤية ما يفعل ذووهم الذين لم يلتحقوا بهم بعد إلى الآخرة.
إن تضمين المعنى في النص الشعري وفي النص القصصي أجمل من التضمين اللفظي، كأن ينقل في بيت شعري جملة من آية قرآنية ويضعها بين قوسين.. في حين أن من الأفضل إيراد المعنى القرآني.. وفي القصة نجد بعض المؤلفين ينقل حكاية شعبية بحذافيرها إلى نصه.. مع أن الاشتغال على تضمين مضمون الحكاية الشعبية أفضل، كأن يستفيد من حكاية ''المسفلة'' في الثقافة الشعبية.. وهو ما فعله عبدالكريم الشهاري في قصصه، التي تحكي حوارات بين أشخاص في العالم الآخر، و''المسفلة'' هي المرأة الثكلى التي يشتد عليها الحزن وفي منامها تزور بروحها الجنة وحين تستيقظ تخبر ناسها بما رأت في دار الآخرة.

خيانة الثورة
قصة ''رمال متحركة'' وكذلك قصة ''صدى النبوءة'' تعالجان قضية خيانة الثورة والمبادئ والأخلاق الجهادية من قبل بعض المحسوبين عليها، بالإضافة إلى قضية تجنيد الأطفال.
 
''جوارب''
قصة ''جوارب'' تشترك مع قصة ''الشاي'' في أنهما تطرحان موضوع المشاكل الأسرية والتطرق لمواضيع الهامش التي تصعد للمتن في لحظة من الانفعال النفسي، وتعنى بتطور أسباب احتقان التراكمات مهما كانت صغيرة وذرائعها غير مقنعة.
كان حسن يوسف في الواقع على موعد في اليوم التالي لاستلام منصبه الجديد.. وتحكي القصة عن حدوث شجار عائلي بصورة متكررة كل يوم بسبب ضياع جوارب الزوج.. في هذه القصة وفي قصة ''الشاي'' في دلالة على وجود فوضى تبدأ عادية ثم تتصاعد بلا شعور.. المعيشة.. تتسع دائرة التشاجر كلما أضاف المؤلف شخصية جديدة من العائلة، للدلالة على أن المشكلة العائلية تزداد اتساعا كلما تعرف عليها أكثر عدد من أفراد العائلة.. تشتد حلقات الحبكة وتتفاقم حدة المشاكل في تداع مستمر يضرم النيران في هشيم العلاقات، ثم تنفرج حلقاتها بعد استحكامها باستيقاظ سعادة الوزير من النوم ملقيا على جانبي السرير نهايات حلم مرعب. لماذا انتهت القصة على هذا النحو من البرود الصادم للقارئ؟! وهل القصة القصيرة مشروع رواية منوح، أي لم يتم إكماله؟! تساءلت عن هذا لكي يكون تساؤلي فكرة للحديث عن نهايات الأعمال القصصية بشكل عام في مقال قادم.
وعلى غير المتوقع فاجأني المؤلف بانتهاء القصة، وبينما توقعت إنهاءها بمنطقية درامية، باغتني المؤلف بأنها كانت مجرد حلم، ولعل المؤلف خشي ملل القارئ فابتدر مشهدا مفاجئا لينعشه، في حين أني كقارئ أريد أن تكتمل مجريات القصة على نحو أكثر جدية، لكن هذه الصدمة التي يوجهها المؤلف تحدث أثرا أليما في نفسي.. فأتوقع من المؤلف معالجة هذا الأثر في مشهد تال قبل أن تتفاقم أزمتي النفسية، ولو من باب جبر الخاطر، إلا أنه يخفق في ذلك معلنا النهاية.
يجد الكاتب في محاكاة نفسية القارئ مجالا خصبا لبث إيحاءاته ورؤاه الفلسفية، لأن وصوله إلى مرحلة المحاكاة ومقام التغلغل في أعماقه، يشبه إلى حد ما إدراك السبع الطريدة، وهو مقام صعب، لأنه مقام إثبات التشابه بالنسبة للطريدة والسبع في العالم الفكري، بما يعني التواؤم أو الانطباق، لكنه في العالم التطبيقي ضرورة.. وما أريده هنا بالتأكيد الانطباق الروحي، في حالة وصل الروائي إلى أعماق القارئ يبدأ في توجيهه إلى روضات فكرية من إنشائه. في الواقع ما يفعله الروائي بواسطة شخوصه في الوعي الجمعي ومن خلال حبكاته الدرامية يتبين لنا قدرته على تحديد شكل المجتمع فضلا عن تحديد ثقافته.

''ق.. ق.. ج''
هل توجد أوجه شبه أو مشتركات أدبية بين القصة القصيرة جدا والقصيدة القصيرة جدا.. ففي القصص القصيرة جدا والتي عنونها المؤلف بـ"ق ق ج"، تحمل مقومات القصيدة القصيرة جدا أو قصيدة الومضة.. فهل يمكن تسمية القصة القصيرة جدا التي يكتبها عبدالكريم الشهاري ضمن موجة قصاصين برعوا في كتابتها.. ''قصة الومضة''؟!
(''توقيت'': وعندما حان الوقت المناسب كان المناسب قد فقد ذاكرته تماما).
(''تزامن'': قبل أن يدرك اللحظة المناسبة استرعى انتباهه فوات الأوان).
(''خيانة'': أفاقت من صدمة الخيانة لتغرق في خيانة الصدمة من جديد).
وإذن، فقد لاحظنا إمكانية أن تُحدث قصة الومضة في ذهن القارئ نفس الدهشة التي تُحدثها قصيدة الومضة بما تحمله من مفارقة وفكرة وجاذبية.
وعلى ذلك أمكن اجتماع القاص والشاعر على نفس الطاولة وفقا لهذه الومضة المزدوجة في نخب خيالي يسوق إلى نفس الثمالة.

أترك تعليقاً

التعليقات