أوراق مبعثرة للشاعر محمد محسن الحوثي
 

يحيى اليازلي

يحيى اليازلي / لا ميديا -
الشاعر محمد محسن زيد الحوثي يعالج الألم بالمعنى ويجلي المعنى بالأوفاق.. وهذا يرينا إلى أي مدى النص مشحون بقوة عرفانية.. في بناه النصية ضمن جملة قوى شعرية لديه.. من ضمنها التنصيص الأدبي والتاريخي والتماهي مع المبنى الرمزي بما لا يفارق المعنى:
«جُمِعَتْ بُحُوْر الشِّعْر في أحْدَاقِي
فتَبَعْثَرَتْ بيْن الوَرَى أَوْرَاقِي»
قافية القاف فيها طاقة عالية من سورة قاف.. ومن عسق عين سين قاف.. وجمعت بصيغة المبني للمجهول فيها دلالة على أن الشاعر مفطور على الشعر ولم يكلفه كتابته عناء تعلمه.. وإنما وجد ذاته يقوله بيسر.. وفي الأحداق.. أكثر إحساسا وشاعرية من أن تجمع البحور في قلمه.. لأنه هنا سيخط بالدموع بدلا عن الحبر.. فتبعثرت بين الورى أوراقي.. بين الورى.. الورى الناس.. جاءت مجانسة لفظية مع أوراقي.. من ناحية.. ومن ناحية تبعثرت بين الورى تحديدا وليس بين الجبال والوديان وأماكن خالية من الناس.. لأن الشاعر اجتماعي ويقصد توجيه مشاعره ذات البحور الفياضة من أحداقه.. إليهم لأن الأمر مهم.. ولأنه من ناحية ثالثة موضوع إنساني يخص أو يجب أن يلامس إحساس كل إنسان حي ولا يخص جماعة.. وفي اجتماع بحور الحدق وبين الورى والمقصود بين أحداق الورى بالمقابلة.. وفي اللفظ إيحاء تلميحي لفظي ينم عن قداح من الشرر... من أورى النار.. ينتج لنا مفارقة فيها معنى أو يسرج معنى المفارقة.. التي تفيد أن بحور شعره التي تفيض بها حدقاته تناثرت لإطفاء حرائق تضمرها صدور الورى التي تظهرها عيونهم.. لكن ما هو الأمر الهام الذي سيثيره الشاعر؟
«طوَّفْتُ أرْجَاء البِلاد مُحَلِّقاً
وأنا المُقَيّد في أَشَدّ وثاقِ»
انزياح في المقصد في حين أن التطواف يقتضي جناحين.. لأنه يريد التطواف في أرجاء البلاد.. محلقا.. لكن مسار المقصد ينزاح إلى معنى آخر.. وأنا المقيد في أشد وثاق.. ما يؤكد وصفه لرحلة جوية على طائرة.. في دراما شعرية جميلة تأخذك إلى معاناة زمنية وإن كانت منبثقة من خيال شعري عاشها أثناء فترة التحليق بالطائرة/ المعنى.. رابطا حزام الأمان.. وهذه السردية تأخذك إلى معنى سيأخذك إلى معنى أنه كان يود لو أتيحت له فرصة فك الوثاق لكي يتدلى بعينيه من نافذة لأخرى من نوافذ الطائرة.. كتعبير عن لهفة واشتياق لطائر آخر داخل جوفه يريد أن يمارس الطيران بنفس الكيفية التي تمارسها الطائرة.
إشارته الرمزية والتناصية مع البردوني في مطلع قصيدته أبي تمام وعروبة اليوم:
«حبيب وافيت من صنعاء يحملني
نسر وخلف ضلوعي يلهث العرب»
والقصيدة البردونية المكتوبة سلفا أو خلفا في بغداد أو حالا للرحلة إلى بغداد على الطائرة/ النسر التي تقله وتطوف به البلاد العربية.. ويخاطب بها طيف أبي تمام.. لينثرها على جمهور شعراء مهرجان أبي تمام.. كالجواهري ونزار.. وغيرهما شعراء كبار.. هذا المشهد الشعري الذي بناه مخيال البردوني كان موضع تناص مع معنى لدى محمد الحوثي.. إلا أن الجمهور الذي يناصص به هذا الأخير جمهور البردوني.. هو جمهور العروبة الأحياء الضمائر.. في حين أن البردوني يقف معادلا موضوعيا يحاكي به الشاعر (المقاومة) كمضطرم ثوري ممثل عن كل أحرار العالم.. كما يشير في البيت السابع:
«يا أنت جواب العصور منازلي
تصبو إليك بمعجم الأوفاق»
وهنا أريد أن أقف قليلا لتأمل هذه النصيات الأوفاقية.. بما يثير مفاتيح التساؤل عن أن ثمة بيانا إبداعيا لأحوال سابحة في معارج المعنى الميتافيزيقي.. تدق معادلات الأوفاق التي لا نشك في كونها إلهامية تتنزل على فؤاد شاعر هو في وضعية التلقي المعرفي اللاهوتي.. فـ»جواب العصور» هو ديوان الشاعر البردوني الذي فيه ضميمته لأبي تمام.. والنسر الذي حمل البردوني هو النص الذي يحمل الشاعر محمد محسن الحوثي.. والعرب اللاهثون خلف ضلوع جواب العصور.. هي ذاتها الاضطرامات التي تقدح من عيون الورى إزاء تناثر أوراق محمد محسن.. وهنا نصية موازية مع الصورة القابعة خلف ضلوع البردوني تبين حقيقة اللهاث الذي يعنيه وأنه لهاث بمحاذاة النص الذي سيقارع به فحول الشعر العربي في عكاظ بغداد.
القضية التي يعالجها البردوني هي لب المعنى الذي تعالجه أوراق مبعثرة لمحمد محسن الحوثي.
إننا إزاء شاعر كبير خبير بصناعة النص ومحاط بسياجات من العزلة الجغرافية السياسية.. ولديه القدرة على تخطي المعاناة وتقصير أمد الألم إلى ضفة المعنى.
الرحلة التي تقوم بها أوراق مبعثرة للشاعر محمد محسن الحوثي في مدار القضية الفلسطينية محاكية وبأسلوب ذكي نفسية المجتمع العربي ورعاشة ضمائر الزعماء السياسيين كانت مجازفة بالنسبة لمواطن شاعر مشكوك بتبعيته لجماعة الحوثي آنذاك بسبب لقبه.. لكن معرفته بالمفاهيم الشعرية ساعدته في اجتياز ذلك الرهاب.. فأجاد توظيف الدلالة الرمزية في نسج النص واتخاذه معادلا موضوعيا لجيشان المعنى خلف قضبان ضلوعه.. ولإسقاط ظلاله كما تفنن في إنتاج الصورة النفسية.. بعيدا عن الأساليب الكلاسيكية والنمطية. وقد نشر كثيرا من تلك النصوص في صحف النظام.. قد نعرضها لاحقا.. وهذا النص الذي نظمه في انتصار المقاومة اللبنانية 2006م، وبالمصادفة كانت ذكرى وفاة الشاعر الأديب عبدالله البردوني -رحمه الله- ولهذا أشار إليه في النص.
«كم قُلْتَ: إنَّ النَّاسَ إمَّا بَاطشٌ
يحيا، ومَبْطُوش بكُلِّ رُوَاقِ»
صورة واضحة للعالم الراهن.. بما هو عليه من الظلم الذي تمارسه دول الاستكبار العالمي على الدول العربية ومجتمعاتها المغلوبة على أمرها وفي منطقة ما يسمى الشرق الأوسط.. من احتلال عقول وأراض ومصادرة أملاك وحريات وحقوق.. هذا على الصعيد الدولي.. ونفس الصورة ونفس الوضوح في الداخل العربي يحدث أن السمك الكبير يأكل الصغير.. وتطغى على النظم شريعة الغاب.. وتشظيات في النسيج الاجتماعي وطمس هوية ممنهج وإبدال هويات وببرامج دخيلة تدار من الخارج.


أوراق مبعثرة
جُمِعَتْ بُحُوْر الشِّعْر في أحْدَاقِي
فتَبَعْثَرَتْ بيْن الوَرَى أَوْرَاقِي
طوَّفْتُ أرْجَاء البِلاد مُحَلِّقاً
وأنا المُقَيّد في أَشَدّ وثاقِ
وتحَوَّمَتْ في الجَوِّ غيْمَة أَحْرُفي
دُرَراً تُبَاهي لَوْعَة العُشَّاقِ
حتّى إذا ظَمِأَتْ جَوَانِح أَضْلُعِي
دَارَ الهَوَى بالكَأْس مِنْ تِرْيَاقي
والمَسْجِدُ الأَقْصَىْ يَصِيْحُ مُنَادِياً
لا تَأْمَنُوا مَنْ يَبْتَغِي إِحْرَاقي
كَمِ اتِّفاقٍ وقّعُوا لكِنَّهمْ
نَقَضُوا العُهُودَ وما رَعَوا مِيْثَاقي
يا أنْت «جَوَّاب العُصُوْرِ» مَنَازِلي
تَصْبُو إِلَيْكَ بِمُعْجمِ الأَوْفَاقِ
كم قُلْتَ: إنَّ النَّاسَ إمَّا بَاطشٌ
يحيا، ومَبْطُوش بكُلِّ رُوَاقِ
وذَكَرْتَ تَقْسيمَ المُقَسَّمِ مِثْل ما
يأتي المُجزّأُ في الجُزَيءِ الباقي
يا أنت يا مَنْ أنْتَ فَلْسَفْت الحَصَى
باللّون لا بالحِبْرِ في الأوْرَاقِ
فالذِّكْريَات بشَهْر «آب» كَثِيْرةٌ
مِنْها رَحِيْلُكَ بالنّدى الدَّفَّاقِ
«لبنان» أيْضًا فيه حقَّقَ نَصْرَهُ
رغم الخَسَائِر والدّم المُهْراقِ
وأنا الذي «هَنْدَسْتها» يا صاحبي!
فِكْراً، فَلاحَ الفجرُ بالإِشْراقِ
ضمَّخْتها بالعِطْرِ حين نَثَرْتهُ
فَرْدَسْتُ بَحْراً فَاضَ بالأَخْلاقِ
وبرُغْم ذلك فَالجِرَاح عَمِيْقةٌ
 لم تَنْدَمِلْ يوماً على الإِطلاقِ!
وأرى الجماجم والرُّؤوس حَصِيْدة
والنَّخْل يَذْوي في سفُوح «عِرَاقِ»
فإذا أنا كسحَابَةٍ بَرّاقَةٍ
أَطْلَقتُ حَرْف الشِّعْرِ في الآَفاقِ
حرَّكْته نَحْو اليمين وتارةً
يَسَّرْتهُ في جَزْرِ «وَاق الوَاقِ»
دفْقاً مِنَ الضَّوءِ الذي طرَّزْتهُ
بالتِّبْرِ والذَّهَبِ النَّقِي الرَّاقي
ورَفَعْتُ راية أُمَّتي خفَّاقَةً
بَيْنَ الشُّعُوْبِ، وعِزَّةِ الخَلاَّقِ
أحلَى التَّهَاني يا «ربيع» أزِفُّها
ليلاً تُعَانِقُ، إِخْوَتي ورِفَاقي»

أترك تعليقاً

التعليقات