يحيى اليازلي

يحيى اليازلي / لا ميديا -
لست مع تشطير القصائد إلا في حالات ما، كتشطير الإمام أحمد حميد الدين لقصيدة أراك عصي الدمع شيمتك الصبر لأبي فراس الحمداني؛ لنواحٍ عدة، أهمها: أن مشطرته صارت ظاهرة؛ ومن ناحية أنها متجاوزة السائد. ومن ناحية ثالثة أن تشطيره لها بصفتها أدبا راقيا وبتلك المثالية المتعالية، أطلقها كظاهرة تفاعلية جعل القيام بتشطيرها من بعده علامة على الفحولة الشعرية. ومايزال الشعراء في اليمن حتى اليوم يتنافسون على تشطير قصيدة أراك عصي الدمع.
الإمام أحمد من رواد اتجاه تشطير الشعر في اليمن إن لم يكن الأول. لست مع التشطير لأن التشطير برأيي يجعل النص عبارة عن تحفة من الفسيفساء. ومع ذلك أراهن على أن الإمام أحمد تميز في تشطيريته إلى حدٍ أضاف بُعداً جمالياً جديداً وثقافياً مهماً، بشعرية عالية لم يتجاوزها أحد من بعده. أتحدث عن هذا الفن مستهلاً تشطيرية أراك عصي الدمع للإمام أحمد وواضعاً في يدي نصاً منسوباً للإمام علي تميز بأنه يقرأ من كل الاتجاهات. مؤكداً على أن ثمة من اجترح منذ زمن قديم نصاً ذكياً. وأفضل تسميته هكذا مع أني بصدد القصيدة الرقمية المعاصرة التي تعتبر أحدث ما توصل إليه العقل الأدبي الحديث مواكباً للتكنولوجيا:
«ألوم صديقي وهذا محال
صديقي أحبه كلام يقال
وهذا كلام بليغ الجمال
محال يـقال الجمال خيال»

القصيدة الرقمية كنوع شعري خامس أو كجنس رقمي أول إذا جاز التعبير في منظومة الأدب الرقمي التفاعلي، ظاهرة تكنوشعرية معاصرة، تعتمد على الإبداع الأدبي الشاسع والمواكب لتقنية الفضاء الرقمي الواسع، والذي من مظاهره الكتابة ذات الأيقونية أو أيقنة الكلمة؛ بما يجعل النص الشعري التفاعلي عبارة عن شبكة شعرية تفاعلية موغلة في التداخل والتعالق، وبما يشبه فيزياء الكم، وذرات العناصر المتناهية في الصغر وفي العمق وفي الخيال. كأن تجعل من كل كلمة في بيت أبي فراس الحمداني أيقونة. هذه الأيقونة تفضي إلى نص كل جملة فيه أيقونة تفضي أيضاً إلى نص تال. ألا تذكرك هذه الإفضاءات والأيقونات الرقمية بهذه المقطوعة التي تنسب إلى الإمام علي:
«إذا أتيت نوفل بن دارم
أمير مخزوم وسيف هاشم
وجدته أظلم كل ظــالم
على الدنانير أو الدراهــم
وأبخل الأعراب والأعاجم
بعـرضه وسره المكاتم
لا يستحي مـن لوم كل لائم
إذا قضى بالحق في الجرائم
ولا يراعي جانب المكارم
في جانب الحق وعدل الحاكم
يقرع من يأتيه سن النـادم
إذا لم يكن من قدم بقادم»

الفضاء الرقمي الافتراضي الذي ينتمي إليه الرقميون بأدبهم التفاعلي. نحاول أن نتقاطع معهم فيه من خلال الآثار التي تركها لنا الأئمة. الإمام علي عليه السلام له نبوءات بحدوث هذا الانفجار الكوني الافتراضي العظيم، ضمن تراثه الفكري والعلمي الجفري والصفري. يروى عنه أنه مر ومعه أصحابه بنهر فقال لهم لو شئت لأخرجت لكم من هذا الماء ناراً. أتذكر أني قرأت في خطبة له أسماء ومنها «الفلز» وكأنها تأسيس لجدول مندليف. أوليس الإمام علي عليه السلام الإنسان الوحيد من بعد النبي -صلوات الله وسلامه عليه وآله- الذي قال سلوني عما دون العرش.
التشطير بإيجاز هو قيام شاعر بشطر كل بيت شعري من قصيدة شاعر آخر وملئه ببيت شعري من عنده، بحيث يتسامك معه فيضع للصدر عجزاً وللعجز صدراً، إلى نهاية القصيدة، حتى يشملها. ثم يصبح النسيج كله كأنه نص مؤلفه واحد. يطلق عليه المشطر، أو القصيدة المشطرة. وبالنظر إلى القصيدة الأصلية لأبي فراس الحمداني نجد أن قوامها واحد وأربعون بيتاً، وقوام القصيدة المشطرة اثنان وثمانون بيتاً. ولأن القصيدة طويلة سنكتفي بإيراد عشرة أبيات مشطرة هي مجموع خمسة أبيات أصلية زائداً خمسة أبيات إضافية. وعند التحليل بشكل كلي سيكون لدينا ثلاثة نصوص: هي أولاً نص القصيدة الأصلية، وثانياً نص القصيدة المشطرة، وثالثاً نص الإضافة المدخل على النص الأصلي.
وبالنظر إلى القصيدة الأصل لأبي فراس الحمداني من زاوية المعادل الموضوعي وفيها أو من خلالها يبرز شخص الإمام الشاعر:
«أراك عصي الدمع شيمتـك الصبـرُ
أما للهوى نهـيٌ عليـك ولا أمـرُ
بلى أنـا مشتـاق وعنـدي لوعـة
ولكـن مثلـي لا يـذاعُ لـه سـّرُ
إذا الليل أضواني بسطت يد الهـوى
وأذللت دمعـاً مـن خلائقـه الكبـرُ
تكاد تضيء النـار بيـن جوانحـي
إذا هـي أذكتهـا الصبابـة والفكـرُ
معللتـي بالوصـل والمـوت دونـه
إذا بت ظمآنـاً فـلا نـزل القطـرُ»

يمكن اعتبار تشطير الإمام أحمد لقصيدة أبي فراس الحمداني معادلاً موضوعياً يعبر من خلاله عن رغبة جامحة في الاندماج الجغرافي للدولة الهادوية التي يحكمها الإمام أحمد مع جغرافيا كانت تقع عليها الدولة الحمدانية التي كان يحكمها سيف الدولة، لا بأثر تاريخي ولكن بأثر وجداني حيث كان الإمام أحمد يرغب في تحقيق وحدة عربية ذات أيديولوجيا ما، نستشفها من شخصية القصيدة التي تضمر العقل؛ وبما يشبه الأنثروبولوجيا. هذه القصيدة بمثابة الإلياذة التي يرى من خلالها الإمام عالمه المثالي.
يمكننا قراءتها كمعادل موضوعي رمزي تختبئ خلفه مشاعر جياشة وكنص ثقافي يحمل في طياته أفكاراً مكنونة لم يمنع الإمام من البوح بها لأنه لم يكن قد جلس على كرسي الحكم.
وبالنظر إلى القصيدة المشطرة كاملة متضمنة إضافات الإمام أحمد من زاوية نفسية يتضح لنا امتزاج شخصية الإمام الشاعر والسياسي معاً، الذي يجمع بين خصال الشجاعة والشهامة والعلم مع الشعر والرصانة والعشق والغزل. أبو فراس مع أحمد حميد الدين ليشكلا شخصية واحدة أو متشابهة جمالياً تجتمع فيها الصفات المبينة للشاعرين وفي:
«أراك عصي الدمع شيمتـك الصبـرُ
- مهابـاً تحامتـك النوائـبُ والدهـرُ
سمت بك أخلاقٌ فمـا قيـل بعدهـا-
أما للهوى نهـيٌ عليـك ولا أمـرُ

بلى أنـا مشتـاق وعنـدي لوعـة
- ولكن لأمـرٍ دونـه الأنجـمُ الزهـرُ
أريد العلا لا أبتغي الدهـر دونهـا-
ولكـن مثلـي لا يـذاعُ لـه سـرُّ

إذا الليل أضواني بسطت يد الهـوى
- لدك دياجي الخطب كي يطلع الفجـرُ
وفزتُ بما أهواه قسـراً ولـم أقـل-
وأذللت دمعـاً مـن خلائقـه الكبـرُ

تكاد تضيء النـار بيـن جوانحـي
- إذا صدني عمـا سعيـتُ لـه أمـرُ
فأبصرُ في الظلماء أمـري بنورهـا-
إذا هـي أذكتهـا الصبابـة والفكـرُ

معللتـي بالوصـل والمـوت دونـه
- لكِ الويل سيّان التواصل والهجـرُ
سأشفي غليل النفس من كل مفخـرٍ-
إذا بت ظمآنـاً فـلا نـزل القطـرُ»

النص المتوكلي الداخل في النص الحمداني مجرداً نستنبط منه النسق الثقافي، وبالنظر إليه من زاوية تفكيكية نلمس لديه قيماً عربية عالية، وأخلاقاً إسلامية سامية متجذرة، تمثلها بسمو وفخر، وأنفة واعتزاز، بعيداً عن الهبوط والابتذال، حتى في الجوانب الغزلية، إضافة إلى نزعة سياسية لسلطة تحمل أيديولوجيا سيف الدولة الحمداني ورؤاه السياسية والفلسفية والفضاء الثقافي والتنويري الذي حظي به الفلاسفة والأدباء والمثقفون تحت ظل الخلافة الحمدانية. لقد كان الإمام أحمد المتوكلي يحمل الطموح والأفكار القومية والثورية والعروبية وسنلاحظ ذلك من مدخلاته التشطيرية:
«مهابـاً تحامتـك النوائـبُ والدهـرُ
سمت بك أخلاقٌ فمـا قيـل بعدهـا
ولكن لأمـرٍ دونـه الأنجـمُ الزهـرُ
أريد العلى لا أبتغي الدهـر دونهـا
لدك دياجي الخطب كي يطلع الفجـرُ
وفزتُ بما أهواه قسـراً ولـم أقـل
إذا صدني عمـا سعيـتُ لـه أمـرُ
فأبصرُ في الظلماء أمـري بنورهـا
لكِ الويل سيّان التواصل والهجـرُ
سأشفي غليل النفس من كل مفخـرٍ»

وأنا أقرأ مشطرة الإمام أحمد لقصيدة أبي فراس الحمداني أريد أن أتساءل هل يمكن اعتبار النص المشطر جنساً أدبياً جديداً؟ أو على الأقل اعتباره حجر الأساس أو بذرة لنشوء ما يسمى الآن بالقصيدة التفاعلية أو الرقمية؟ لِماذا وإن كان ورقياً، ولماذا أيضاً وإن كان قديماً لا يكون كذلك؟ وفي أسوأ الأحوال تفاعلياً إلا أنه «لا رقمي» وذو منصات تنطلق منها خيالات، إلا أنه «لا أثيري» وله عقيلات تتفرع منها أغصان إلا أنه «لا أيقوني». أتساءل أيضاً ما إذا كان مؤلف النص المشطر شاعراً أو تقنياً مبدعاً أدبياً أو فني أدب؟ وأتساءل وأنا أكتب عن مشطرة الإمام هل أنا قارئ أدب أو مهندس شعري؟

أترك تعليقاً

التعليقات