مبارك حزام العسالي

مبارك حزام العسالي / لا ميديا -
حين نتأمل فاجعة كربلاء، لا نقف أمام معركةٍ بالسيف والدم فقط، بل أمام ملحمة إنسانية خالدة تحمل في عمقها أعظم معاني الوعي، وأسمى صور الفداء.
لم يكن ما جرى للإمام الحسين (عليه السلام) في كربلاء مجرد استشهاد بطولي لرجلٍ عظيم، بل كان نهوضاً مقصوداً، وقراراً واعياً بتحدي الظلم، وتقديم النموذج الرسالي الصادق في وجه الطغيان والانحراف.
لم يخرج الحسين طلباً للسلطة، ولا طمعاً في جاهٍ أو حكم، بل قالها في أول الطريق وهو يترك المدينة متوجهاً نحو مصيره المعروف: "لم أخرج أشِراً ولا بطِراً، ولا مُفسِداً ولا ظالماً، إنما خرجتُ لطلب الإصلاح في أمة جدي".
هذه الكلمات ليست شعاراً عابراً، بل كانت جوهر المشروع الحسيني، ومفتاح الفهم العميق لكربلاء.
لقد أراد الحسين أن يوقظ ضمير الأمة، وينقذ الإسلام من التشوُّه والانحراف الذي تمثل في شخص يزيد بن معاوية ومنظومة الحكم الأموية، التي حولت الخلافة إلى مُلْك عضوض، وعبثت بقيم الدين وسحقت كرامة الإنسان.
كان الإمام الحسين يعلم أن المعركة غير متكافئة، وأن خروجه قد يفضي إلى الشهادة؛ لكنه اختار الموقف لا النتيجة، واختار أن يسجل للتاريخ موقفاً خالداً لا يقبل المساومة أو التنازل على حساب الحق.
لم تكن المسألة حسابات سياسية باردة، بل كانت رؤية عميقة تستشرف مستقبل الأمة، وتؤمن بأن التضحية في سبيل الحق أعظم من حياةٍ في ظل الباطل.
لقد شكلت كربلاء وعياً جديداً في الأمة الإسلامية. فدماء الإمام الحسين الطاهرة لم تذهب سدى، بل زرعت في ضمير الشعوب سؤالاً لا يموت: أين نقف نحن من الحسين؟ وأين نقف من يزيد؟ ومن الذي يمثل الحق؟ ومن الذي يمثل الباطل؟ ومن الذي يستحق أن يُتبع أو يُفضح؟
لم يكن هدف الإمام الحسين إسقاط النظام الأموي عسكرياً، بل كان يريد أن يهدم شرعيته أخلاقياً، ويكشف زيف سلطته أمام التاريخ والناس؛ وقد فعل ذلك بدمه، ودماء أصحابه، ودموع أطفاله، وصبر نسائه.
ليس من الإنصاف أن نختزل كربلاء في مأساة للبكاء فقط، أو حادثة مؤلمة نستذكرها بعين الحزن فقط. كربلاء كانت ثورة متكاملة، وفعلاً رسالياً هائلاً، ما تزال أصداؤه تتردد في أعماق التاريخ والوجدان. كل صرخة للحق، كل مقاومة للظلم، كل شعب ينهض من تحت ركام القهر، هو امتداد لروح كربلاء. وكل من قال في وجه الطغاة: "هيهات منا الذلة"، فقد نطق بلسان الحسين وسار في دربه.
لم يمت الإمام الحسين في كربلاء؛ بل وُلد هناك من جديد، في وجدان الأحرار، وفي ضمير المظلومين، وفي وعي الثائرين الذين استلهموا من موقفه معنى الكرامة، ومغزى الشهادة، وسرّ الخلود.
لقد كتب بالدم ما عجزت الأقلام عن قوله، ورسم بملحمة عاشوراء طريقاً لا ينتهي، يمضي فيه من يريد الحياة بعزة، لا موتاً في ظل الذل والاستسلام.
لقد هزّ الحسين عرش الطغاة، وكسر حاجز الخوف، وأيقظ أمة كادت أن تستسلم، وأعاد تعريف النصر والهزيمة بمنطقٍ جديد، ينطلق من القيم لا من الموازين الظاهرية. فإن قُتل الحسين، فقد انتصر. وإن بقي يزيد حياً، فقد خسر؛ لأن من يموت على طريق الحق يظل حياً، ومن يعيش في خدمة الباطل فهو ميت، ولو اعتلى العروش.
كربلاء ليست ذكرى تمر، ولا فاجعة نحزن لها فقط، بل هي صرخة ممتدة في الزمن، توقظ فينا السؤال، وتضعنا في وجه الحقيقة: هل نحن مع الحق حين يغدو مكلفاً؟ هل نرفض الباطل حين يغدو قويّاً؟ وهل نملك الشجاعة لنختار مصيرنا كما اختار الحسين مصيره؟
تلك هي الأسئلة التي تُبقي عاشوراء حية، وتُبقي الحسين مشعلاً لا ينطفئ.
لا يهم كم مضى من الزمن، ولا كم تعاقب من الطغاة، فالحسين لا يزال هنا، حاضراً في كل مقاومة، في كل شهيد، في كل صرخة حرية، وفي كل دمعة صدق على الحق. ولا تزال معركة كربلاء مستمرة؛ لأن الظلم لا يزال قائماً، والطغيان لا يزال يتجدد بأسماء وأشكال شتى.
وهنا، بالضبط، تتجلى أهمية الحسين، كرمز خالد للتحدي، وكمنارة تنير الدروب لكل من أراد أن يعيش كريماً، أو يموت عزيزاً.
في النهاية، لم يكن استشهاد الإمام الحسين فشلاً أو خطأ في الحسابات؛ بل كان أعلى درجات الوعي، وأنقى صور التضحية، وأعظم انتصارٍ تحقق بالدم. كانت كربلاء نداءً خالداً بأن الحق لا يُقاس بالكثرة، وأن الموقف أهم من المكاسب، وأن الحسين عليه السلام انتصر يوم قُتل، وانتصر أكثر يوم بقي حيّاً في قلوب كل الأحرار؛ ولم يكن مجرد رجل خرج لرفض حاكم جائر، بل كان أول ثائر في الإسلام يقف بوجه الانحراف السياسي والديني بشجاعة لا نظير لها، ويعلن بوضوح أن كرامة الأمة لا تُشترى، وأن الصمت عن الظلم خيانة لله وللحق وللناس.
لقد جسد بثورته الرفيعة أعظم معنى للمسؤولية التاريخية، وسطّر بدمه الشريف دستوراً خالداً للحرية والعدالة، لا يعرف التنازل ولا المساومة ولا الخوف.
ولهذا، فإن قصة الحسين يجب ألا تُحصر في البكاء والمآتم؛ بل يجب أن تتحول إلى وقود دائم لكل شعب مظلوم، وإلى محفز حيّ لكل أمة مقهورة، لتنهض وتقول كلمتها، وترفع راية "لا" في وجه الطغيان، كما رفعها الحسين بكل إباء. فكل من ثار على الباطل متسلحاً بالحق، وسعى لتحرير شعبه من نير الاستبداد، فقد سار في درب الحسين، ونطق بلغته، واستلهم من كربلاء معناه.

أترك تعليقاً

التعليقات