الزامل يعيد الاعتبار للفن
 

وليد مانع

كثيرا ما ثار الجدل حول وظيفة الفن وغايته. وهو الجدل الذي أفضى إلى بروز مذهبين رئيسين:
أحدهما قال بنظرية "الفن للمجتمع"، وخلاصتها أن الفن لا بد وأن يؤدي خدمة ما للمجتمع، وتلك هي وظيفته وغايته.
وقال الآخر بنظرية "الفن للفن"، وخلاصتها أن الغاية أو الوظيفة الوحيدة للفن ليست سوى الإمتاع والترفيه، أو أن الفن هو الغاية الوحيدة للفن.
ولسنا هنا بصدد الحديث عن هذين المذهبين وما تفرع عنهما، من حيث الظروف الموضوعية، الاجتماعية والاقتصادية والمعرفية، التي أحاطت بنشأة كل منهما؛ فذلك يحتاج إلى دراسات موسعة يضيق عنها مقام كهذا.
ولأنني لست ناقداً فنياً متخصصا، ولا أدعي شيئا من ذلك، فإنني أود فقط أن أشير إلى أن ثمة عوامل أسهمت وتسهم اليوم في تراجع المذهب الأول، وتغول الثاني، بوعي حينا وبدون وعي أحيانا، خصوصا وأن بعض تلك العوامل يتعلق بالمحسوبين على المذهب الأول أنفسهم.
فمحاولات إخضاع الفن وتطويعه كان لها الدور الأكبر في تقييده وإعاقة ملكات الفنان وقدراته الإبداعية، سواء كانت تلك المحاولات باختياره الذاتي، أم مفروضة عليه قسراً.
لقد كان بيكاسو –على سبيل المثال– عضواً في الحزب الشيوعي الفرنسي، وقد مُنح جائزة ستالين للسلام عام 1950، وتم استقباله بحفاوة كبيرة في الاتحاد السوفييتي، أحد أهم معاقل نظرية "الفن للمجتمع"، إن جاز التعبير. رغم ذلك، واتساقا مع موقفها من شائه النظرية، فقد فرضت السلطات السوفييتية رقابة صارمة على الأعمال الفنية، وصلت حد منع بيع وتداول الكثير من أعمال بيكاسو الفنية.
ورغم الانتشار الشعبي الواسع لتيار الإسلام السياسي في مختلف البلدان العربية، فإننا لا نجد لها من النتاج الفني كثيرا مما يستحق الذكر. وعلى سبيل المثال، فإن روائياً واحداً فقط، هو نجيب الكيلاني، محسوب على الإسلاميين. وإذ يضع الكيلاني نفسه موضع الملتزم بـ"القضية الإسلامية"، فقد جاءت أعماله في مستوى فني أقل حتى من متوسط.. قد يبدو هذا دفاعاً عن القول بأن "الفن للفن"! ولكن لا بأس، إذا كان هذا "الالتزام"، السوفييتي أو الإسلامي، هو فحوى "الفن للمجتمع".
بيد أن نظرية "الفن للمجتمع" في حقيقتها لا تفرض هذا النوع من الالتزام، الالتزام للمضمون على حساب الشكل.
والقرآن الكريم مثلا ليس مجرد نص ممتع أو ترفيهي، بل لقد كان الأساس الذي قامت عليه واحدة من أبهى وأزهى حضارات التاريخ الإنساني. ولم يمنعه ذلك من أن يأتي بالأسلوب أو الشكل الذي جعله النص العربي الأجمل على الإطلاق.
ونعرف جميعا، نحن اليمنيين، ذلك الوقع والأثر الذي تتركه في النفس أناشيد أيوب طارش، وهو ما أجمله الأستاذ صلاح الدكاك –فنياً أيضاً– بالقول:
"لِأيوبَ طَعمُ البلادِ التي نتمنى!".
ونعود للإشارة إلى أن فترة السبعينيات والثمانينيات خصوصاً، كانت قد شهدت رواجاً كبيراً لأناشيد "الإخوان المسلمين". ولقد كانت في مجملها مجرد أناشيد "جهادية"، لا متحددة الهوية، شكلا ومضمونا، في انعكاس واضح لحقيقة "الجهاد" الذي دعت إليه، بل ولحقيقة الحركة ذاتها، التي لم تكن وطنية، ولا قومية، ولا حتى أممية حقيقة.
وسنتجنب هنا التورط في الحديث عن حالة الغناء العربي اليوم، الذي إن لم يكن قد فقد فنيته، وهذا مشكوك فيه، فإنه يفقد هويته، القومية والقطرية... لكن في المقابل، تأتي الزوامل لنجد فيها اليوم العنصرين اللذين يمثلان الركيزتين الأساسيتين للفن.
في الزوامل يتوفر المفيد والجميل؛ لكن وقد صارا بنية واحدة، أو وحدة كلية، يغدو فيها المفيد جميلا، أو الجميل مفيدا.
جمالية الزوامل وفنيتها لا تتأتى فقط من روعة أصوات منشدين وملحنين شعبيين أمثال الرائعين عيسى الليث والشهيد لطف القحوم وعبدالخالق النبهان وكثيرين، وسحر كلمات شعراء مجيدين أمثال أمين الجوفي وعزيز الردماني وضيف الله سلمان وغيرهم الكثير... فهذا الجمال الفني والإبداعي كله يتضاعف كثيرا بحكمة الالتزام للقضية، قضية الوطن الصامد في وجه عدو مله السقوط ولم يمل همجيته.
من هنا، وبصرف النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع حركة أنصار الله؛ فإنها بالزوامل تنتج فناً لا ملتزماً وجميلا فحسب، بل وابن بيئته هذه... وإلى كونه فناً يمنياً خالصاً، فإنه –بجماليته والتزامه– لا يعيد الاعتبار للفن اليمني فحسب، بل ويعيد الاعتبار للفن عموما، وظيفة وغاية وإمتاعاً، وهذا ما لا يمكن لنا معه إلا أن نقف إجلالا وإعجاباً.
وعلى وجه الإجمال, إذا كان الفن في تعريفه المحمدي هو ما يوجزه الحديث النبوي الشريف: (إن من الشعر لحكمة وإن من البيان لسحرا), فإن الزامل هو سحر حكيم, أو حكمة ساحرة.

أترك تعليقاً

التعليقات