علي رعد

علي رعد / لا ميديا -
لم يسبق في تاريخ الصراع العربي «الإسرائيلي» أن واجه العدو مقاومة فلسطينية تتمتع بهذه الدرجة من العزيمة والإصرار على القتال حتى تحقيق الأهداف المنشودة. لقد أذهلت المقاومة الأعداء والأصدقاء والحلفاء ببراعتها في القيادة والسيطرة، بدءاً من التخطيط والتنفيذ لعملية «طوفان الأقصى» البطولية، وصولاً إلى مقاومتها في الميدان، والموثّقة عبر كاميرات «الديجيتال». ها هي المقاومة اليوم تقول للقاصي والداني إنّها رغم الخسائر الكبيرة في الأرواح لم تتزحزح قيد أنملة عن حقوقها، ولم ولن تتخلّى عن مقدّسات الأمة.
كان من الممكن أن نكتب اليوم عن نكبة غزّة على غرار ما حدث في العام 1948 من قتل وتهجير الآلاف من الفلسطينيين من أراضيهم؛ بيد أنّ المقاومة الفلسطينية أبت إلا أن تقول كلمتها في الميدان، فقد سطّرت الملاحم البطولية في كل مدينة وشارع وحي، فمنذ أيام فقط وقبل دخول وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ، اعترف جيش الاحتلال بمقتل خمسة عشر جندياً «إسرائيلياً» في بيت حانون، وهذه عيّنة صغيرة مما كان يعانيه في قطاع لا تتجاوز مساحته 360 كيلومتراً مربّعاً. كانت إرادة الشعب الفلسطيني أصلب وأقوى من أن يكسرها احتلال يتفوق في كل المجالات، من التكنولوجيا إلى الصناعات العسكرية الثقيلة. طبعاً هذا لا يعني أنّ العدو ليس لديه نقاط ضعف، بل يمكن القول إن نقطة ضعفه كانت على صعيد بناء الأفراد، وخاصة لناحية إرادة القتال، بمعنى أن المُحرّك الأساسي لأي مقاتل على وجه هذه البسيطة هو وجود هذه الإرادة نفسها، والتي بدونها لا يمكن أن يتقدّم حتى لو كان مدعوماً بكل أسلحة العالم. لذا، فإنّ العدو «الإسرائيلي» بدا في الأيام الأخيرة كأنّه يفقد إرادة القتال، وهذا ما تُرجم لاحقاً في قبوله وقف إطلاق النار والبدء بتحضيرات المرحلة الأولى لتبادل الأسرى بين الطرفين.
«إن كنت تعرف قدراتك وقدرات خصمك، فما عليك أن تخشى من نتائج مئة معركة. وإن كنت تعرف قدرات نفسك، وتجهل قدرات خصمك، فلسوف تعاني من هزيمة بعد كل نصر مُكتسب. أما إن كنت تجهل قدرات نفسك، وتجهل قدرات خصمك فالهزيمة المؤكدة ستكون حليفك في كل معركة» (من كتاب «فن الحرب» – صن تزو).
تعرّضت الأجهزة الأمنية «الإسرائيلية» إلى هزيمة أمنية كبرى بعدما بوغتت بعملية «طوفان الأقصى»، ما أدّى حتى إلى التنبؤ بنتيجة الحرب من قبل كُثر، ومن بينهم محللون «إسرائيليون» بأنّ «إسرائيل» خسرت الحرب وانتهى الأمر. لذلك فإنّ هذه الحرب اعتمدت على عنصر المباغتة من جهة، وعلى القدرة على الاستمرار في القتال من جهة أخرى، وهذا ما كانت تتمتع به المقاومة.
إنّ الروحية العالية التي قاتل بها الفلسطينيون، والتي بلغت حدّ فناء الذات، تشير إلى أنّ المقاومات الشعبية التي تفتقر إلى الإمكانات المادية والعسكرية المتقدمة سوف تصمد وتنتصر بفضل شرعية الحقوق والقضايا التي تناضل من أجلها. لذلك، عندما تعرّضت «إسرائيل» لضربات قاسية حفرت عميقاً في الوعي «الإسرائيلي»، أدركت ولو بعد حين أنّ المعركة الطويلة ستكون لصالح المقاومة. وبالفعل أجهضت غزّة -بكل ما تحمله الكلمة من معنى- مشروع تصفية القضية الفلسطينية، بل ووضعته في سُلّم أولويات حكومات العالم، لما له من تداعيات «جيوسياسية» وأمنية على المنطقة بأكملها.
المفاجأة في هذه الحرب هي جبهات الإسناد، التي بدأت من لبنان واليمن والعراق وإيران (عمليتي الوعد الصادق)، والتي تعكس مظاهر قوة وقدرة على حشد الحلفاء لمواجهة «إسرائيل» والولايات المتحدة بالطرق المناسبة. ولا شك في أنّ جبهة لبنان، والتي تحولت في ما بعد إلى حرب شاملة، كانت الجبهة الأكثر إيلاماً «لإسرائيل» والأكثر تضحية للدفاع عن غزة والضفة الغربية؛ إذ قدّمت هذه الجبهة عدداً كبيراً من الشهداء والجرحى، وفي مقدمتهم سيد شهداء الأمة، السيد حسن نصر الله، الذي عشق فلسطين إلى حدّ الشهادة.
«حتى لو غزونا الشرق الأوسط بأكمله، وحتى لو استسلم لنا الجميع، فلن نفوز بهذه الحرب» (من صحيفة «هآرتس الإسرائيلية»).
في المقابل، خسرت «إسرائيل» في هذه الحرب ما لم تخسره في كل حروبها مع العرب مجتمعة. لقد كُسرت صورة «الجيش الذي لا يُكسر» في غزة ولبنان واليمن والعراق. وفي هذا المضمار يقول المُحلل العسكري في صحيفة «يديعوت أحرونوت»، «الإسرائيلية»، يوسي يهوشوع، إنّه بعد خمسة عشر شهراً من بدء الحرب، لم ينجح الجيش «الإسرائيلي» بعد في تفكيك الجناح العسكري لحماس، وهو فشل واضح في الوفاء بالتزاماته.
ويشير العميد «الإسرائيلي» المتقاعد أمير أفيفي، في حديثه مع صحيفة «وول ستريت جورنال»، إلى أنّ وتيرة إعادة بناء حركة «حماس» لنفسها تفوق سرعة جهود الجيش «الإسرائيلي» في القضاء عليها.
لم تخسر «إسرائيل» فقط على صعيد الجبهة العسكرية، بل نالت الحرب من سمعتها الدولية، والتي لطالما استثمرت جهوداً كبيرة لترسيخ مكانتها كدولة ديمقراطية ليبرالية في نظر المجتمع الدولي. ووفقاً لاستطلاعات الرأي، تبيّن أنّ أكثر من ثلث المراهقين اليهود الأمريكيين متعاطفون مع حركة «حماس»، ويعتقد 42% بأنّ «إسرائيل» ترتكب إبادة جماعية في غزة، في حين يتعاطف 66% مع الشعب الفلسطيني بشكل عام. اعتادت «إسرائيل» في حروبها الماضية أن تكسب الرأي العام العالمي، إلا أن المفاجأة أتت من أبرز الدول الداعمة لها، فقد خرجت مئات المظاهرات من نخبة الجامعات الأمريكية (Ivy League) لتعبر عن تضامنها مع غزة، وهذا ما فاجأ حكومة العدو التي سارعت إلى اتهام المتظاهرين المؤيدين لفلسطين بمعاداة السامية (Anti-Semitism). وفي هذا الإطار، يشير جاك ليو، سفير الولايات المتحدة في «إسرائيل»، إلى أنه لا يمكن إغفال تأثير هذه الحرب على صانعي السياسات في المستقبل. فالأشخاص الذين تتراوح أعمارهم اليوم بين 25 و35 و45 عاماً سيكونون هم القادة في الثلاثين أو الأربعين سنة المقبلة.
ختاماً، فإنّ خسارة «اسرائيل» لهذه الحرب ستكون لها تداعيات كبيرة على الداخل «الاسرائيلي»، حيث بدا واضحاً حتى قبل الحرب وجود إرهاصات تشي بانقسامات عمودية وأفقية داخل المجتمع «الإسرائيلي»، حيث ازدادت التوترات بين الجيش والحريديم الذين يرفضون أداء الخدمة العسكرية. كما توجد صراعات بين الصهاينة العلمانيين والمتدينين القوميين. ومع فشل نتنياهو في غزة، يشعر اليمين المتطرف من المستوطنين بأنّ حلم إقامة «إسرائيل الكبرى» قد تلاشى وولّى إلى غير رجعة. لذا، من المتوقع والأكيد أن تتعمّق أزماتهم وخلافاتهم في الأيام المقبلة من جرّاء الفشل العسكري والسياسي الذي لحق بكيانهم، نتيجة عدم تحقيق الأهداف التي وضعت في بداية العدوان على غزّة والضفة الغربية.
إنّ إحدى فوائد هذه الحرب الكبرى أنّها كشفت النقاب عن المتآمرين والمتخاذلين من بعض الدول العربية والأجنبية تجاه فلسطين وشعبها. وأمّا اليوم تستطيع أن تقول غزّة للعالم بأسره إنّها قادرة على تحمّل حرب إبادة، رغم فارق الإمكانات بينها وبين العدو الذي ألقى بكل ما لديه من صواريخ وقنابل أمريكية، إلاّ أنّه لم يستطع أنّ يأخذ حبّة من ترابها.
كاتب لبناني

أترك تعليقاً

التعليقات