نهاية مشروع «ذا لاين».. من لعبة «سيم سيتي» إلى رمال تبوك.. جنازة حلم ابن سلمان الزجاجي
- تم النشر بواسطة عادل عبده بشر / لا ميديا
عادل بشر / لا ميديا -
فيما كانت السعودية تروج للعالم منذ سنوات لمشروعها «المدينة المعجزة» المسمّاة «نيوم»، تكشف اليوم كبريات الصحف البريطانية (فايننشال تايمز، ذا تايمز، والإندبندنت) عن الحقيقة المرة: الحلم انهار، والمشروع الذي قُدّم باعتباره «ثورة عمرانية غير مسبوقة في التاريخ البشري» لم يكن سوى خيال جامح لولي عهد شاب، يتعامل مع الدولة كمنصة ألعاب إلكترونية، ومع أموال النفط كرصيد مفتوح للتجريب.
من الخيال إلى الصحراء
بدأت القصة في العام 2017، حين قرر محمد بن سلمان، أن يُخلد اسمه بإنشاء مدينة خارقة تمتدّ على مساحة 26 ألف كيلومتر مربع شمال غرب البلاد، تضم «ذا لاين»، المدينة الخطّية الزجاجية بطول 170 كيلومترا وارتفاع 500 متر.
كانت الخطة، كما روّج لها الإعلام السعودي، أن يسكن فيها تسعة ملايين شخص يعيشون في «يوتوبيا» -مقاطع عمرانية ضخمة تضم آلاف المساكن والمرافق- خالية من السيارات والانبعاثات، مدينة يحكمها الذكاء الاصطناعي والطاقة المتجددة، وتعيد تعريف مفهوم الحياة على الكوكب.
لكن مع مرور الوقت، ومع كل صورة مبهرة أو عرض ترويجي، كان الواقع ينسحب بهدوء من المشهد، ليترك خلفه حلماً متعثراً وسط الرمال. فبحسب تحقيق صحيفة «فايننشال تايمز» البريطانية، أنفقت المملكة حتى منتصف 2024 أكثر من خمسين مليار دولار على أعمال الأساسات وحدها، دون أن ترى النور أي وحدة مكتملة. ومع تدنّي أسعار النفط، بدأ المشروع يتقلص من عشرين وحدة إلى اثنتي عشرة، ثم سبع، ثم أربع، حتى انتهى في نهاية 2023 إلى ثلاث وحدات فقط. وقال مدير البناء «عندما انخفض العدد إلى ثلاثة، لم تعد الستة آلاف قاعدة ذات فائدة».
قوانين الفيزياء تسخر من الحاكم
من بين أكثر تفاصيل التقرير البريطاني إثارة للسخرية، ما رواه معماريون شاركوا في التخطيط، فقد أراد الأمير بناء «ثريا مقلوبة» مكونة من ثلاثين طابقا معلقة في الهواء، فوق ميناء محفور في عمق الصحراء، لتكون «المارينا» المركزية للمدينة. وحين حذره المهندسون من أن «الأرض تدور، وأن الأبراج العالية تتمايل بفعل الرياح»، أجابهم مدير المشروع بثقة: «سنجد الحل». حتى عندما أشار أحدهم إلى استحالة تصريف المياه في مبنى مقلوب رأساً على عقب، جاءت الإجابة بأن «مئات العربات الصغيرة ستنقل مياه الصرف ذهابا وإيابا».
لم تكن تلك إلا عينة من الخيال التقني الذي حاول المهندسون تكييفه مع قوانين الطبيعة، قبل أن يدرك الجميع أن قوانين الفيزياء لا تعمل وفق مزاج البلاط الملكي. أحد المهندسين قال: «كنا نعيش تجربة تجمع بين العبث العلمي والعبودية السياسية. لم يكن مسموحاً لأحد أن يقول: لا يمكن تنفيذه».
كارثة مالية
وفقاً للصحافة البريطانية استُوحيت فكرة المشروع من ألعاب الفيديو التي كان الأمير محمد بن سلمان يقضي أمامها ساعات طويلة في شبابه. أراد أن ينقل «الخيال الافتراضي» إلى الواقع، فحوّل صحراء تبوك إلى ما يشبه مختبراً مفتوحاً لمشروع يبتلع موازنات دول كاملة. وفي الوقت الذي كانت المملكة تنفق المليارات على أعمال الحفر والركائز الفولاذية، كانت الميزانية العامة تواجه عجزا غير مسبوق، حتى اضطر صندوق الاستثمارات العامة إلى وقف التمويل الجزئي للمراحل اللاحقة من «نيوم».
وبحسب تقديرات داخلية اطلعت عليها صحيفة «الإندبندنت»، فقد ارتفعت الميزانية الإجمالية للمشروع من 1.6 تريليون دولار إلى نحو 4.5 تريليونا، أي ما يعادل الناتج السنوي لاقتصاد ألمانيا، قبل أن يتم تجميده فعلياً.
يقول أحد المديرين التنفيذيين السابقين: «كنا سنستهلك 60٪ من الإنتاج العالمي للفولاذ الأخضر سنوياً. لقد كان مشروعاً يلتهم العالم».
مشاريع لإشغال الشعب
يرى مراقبون أن مشاريع «نيوم» و»ذا لاين» لم تكن في جوهرها إلا وسيلة لإشغال الرأي العام السعودي بحلم عمراني ضخم يُغرق وسائل الإعلام المحلية بالوعود البراقة، في وقت تتفاقم فيه البطالة وتُقمع فيه الحريات السياسية والدينية. إنها النسخة المعاصرة من سياسة «الخبز والسيرك» التي استخدمها الطغاة عبر التاريخ لتمويه الأزمات الداخلية.
وقال أحد المحللين السياسيين في تعليقه على تقرير «فايننشال تايمز» إن «ما بدا في البداية كمخطط استخباراتي لإلهاء الشعب، تبيّن في النهاية أنه مجرد حلم شخصي لولي عهد يعيش في فقاعة السلطة». ويضيف: «البلد يُدار بعقلية فرد يظن نفسه فوق المحاسبة، محاط بحاشية تخشى أن تقول له: حلمك مستحيل».
تريليون لترامب وللحرب على اليمن
وفقاً لمراقبين لم يكن انهيار «نيوم» حدثاً معزولاً عن النهج المالي والسياسي المتهور لولي العهد وسعيه من جهة أخرى لنيل الرضا والحماية الأمريكية، فقبل أعوام قليلة فقط، وتحديداً في مايو/ أيار 2017م، دفعت المملكة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب مبلغ 460 مليار دولار، تحت مسمى اتفاقيات دفاعية ضد ما أُعلن حينها بـ»التطرف والإرهاب وعزل إيران»، وذلك خلال زيارة «ترامب» الأولى للمملكة، وحين فاز بولايته الثانية التي بدأت مطلع العام الجاري 2025م، قام ترامب بزيارة السعودية في مايو/ أيار الماضي، واستبق الزيارة بالتأكيد بأنه سيجني مبلغ تريليون دولار، وهو ما أكده، أيضاً، مسؤولون أمريكيون كشفوا أن محمد بن سلمان دفع ما يقارب تريليون دولار للرئيس «دونالد ترامب» عبر صفقات سلاح واستثمارات في شركات أمريكية، مقابل حماية سياسية ودعم لاعتلائه العرش.
وفي السياق كشفت تقارير استخبارية أمريكية أن السعودية وعبر ولي العهد أنفقت قرابة ألف وثمانمائة مليار دولار في عدوانها على اليمن لثمان سنوات، وهي الحرب التي وصفتها تقارير الأمم المتحدة بأنها «الكارثة الإنسانية الأكبر في العالم الحديث».
وبذلك، تكون المملكة قد بدّدت خلال عقد واحد ما يزيد عن ناتجها المحلي الإجمالي لعقدين مقبلين على مشاريع وحروب بلا جدوى، في حين تتراجع القدرة الشرائية للمواطن السعودي وتُرفع الضرائب وتُخفض الإعانات.
حين يُصبح النقد جريمة
لم يقتصر الفشل على الجانب المالي، بل تمدد إلى البنية السياسية نفسها التي تجعل من الحاكم مركزاً لكل قرار. فبحسب شهادات موظفين نقلتها «فايننشال تايمز»، كان من المستحيل الاعتراض على أي توجيه من الأمير، قائلين بأنه «كان يدخل قاعة الاجتماعات محاطا بخمسين شخصا من حاشيته، فإذا أُعجب بتصميم ما، صفق الجميع، وإن لم يُعجبه، عبسوا جميعا». هكذا وصف أحد المهندسين ثقافة الخوف التي حكمت مشروعا بلغت تكلفته مئات المليارات قبل أن يُدفن في الرمال.
ويقول موظف آخر: «لقد وُضعنا في موقف اضطررنا فيه للكذب بشأن الجداول الزمنية وتكاليف التنفيذ. لم يكن أحد يجرؤ على مواجهة الحقيقة». وعندما حاول بعض المدراء رفع تقارير عن تجاوزات مالية وهندسية إلى مجلس إدارة «نيوم» الذي يترأسه محمد بن سلمان، جرى تهميشهم أو إقالتهم.
قال أحد المخططين «أخبر شخصٌ ما محمد بن سلمان في وقت مبكر جدًا أنه يمكن أن يحصل على قطار فائق السرعة من المطار إلى الساحل خلال 20 دقيقة، فقرر أنه يريد واحدًا». وأضاف «مرة أخرى، كان هذا من تلك الأحلام المستحيلة التي لم يكن مسموحًا بمناقشتها».
الرمال تبتلع الحلم
اليوم، وبعد مرور ثماني سنوات على إطلاق المشروع، تغطي الرمال معظم أعمال الحفر الأولى، بينما تحولت الماكينات الضخمة إلى هياكل صدئة. فمطار «نيوم» أُوقف إلى أجل غير مسمى، والقطار فائق السرعة لم يغادر الورق، والمارينا المعلقة التي قيل إنها ستستقبل أضخم السفن السياحية، أصبحت مادة للتندر في الأوساط الهندسية. وحده منتجع التزلج الصحراوي «تروجينا» لا يزال يُستخدم في الحملات الإعلانية لتجميل المشهد، رغم أن استكماله حتى 2029 يبدو أمرا بعيد المنال.
في الواقع، لم يعد أحد في الداخل السعودي يتحدث عن «ذا لاين» إلا بصوت خافت. فالمشروع الذي وُصف يوما بأنه «مستقبل البشرية» تحول إلى رمز للهوس السلطوي وفشل التخطيط، وإلى شاهد على كيف يمكن لبلد غني بالنفط أن يغرق في الأوهام حين تُختزل الدولة في إرادة شخص واحد.
بين الوهم والحقيقة
تقول «الإندبندنت» إن التجربة السعودية مع نيوم تفتح سؤالاً أوسع: كيف يمكن لدولة تبحث عن «التحول إلى اقتصاد المعرفة» أن تسقط في فخ المشاريع الاستعراضية التي تتجاهل الواقع العلمي والبيئي؟ الجواب -كما يرى محللون- يكمن في غياب المؤسسات الحقيقية القادرة على مراجعة الخطط ومساءلة أصحاب القرار، فكل شيء في المملكة اليوم يدور حول شخص الأمير، وليس حول مصلحة الوطن.
أما الشعب السعودي، الذي طُلب منه أن يصفق للحلم، فيُطلب منه الآن أن يصفق لـ»إنقاذ الاقتصاد» عبر تقليص الحلم نفسه. هكذا تنقلب الهزائم إلى انتصارات في قاموس الأنظمة الشمولية.
بين الرمال والمرآة
في نهاية المطاف، لم تكن «ذا لاين» سوى مرآة ضخمة عكست جنون العظمة لدى الأمير المهووس، الذي ظن أن بإمكانه أن يُعيد صياغة قوانين الكون كما يشاء. لكن المرآة نفسها تحطمت، وكشفت وجه الحقيقة: «بلد يبدد تريليونات على وهم».
لقد أراد محمد بن سلمان أن يكتب اسمه على وجه الكوكب بحروف من زجاج، فكتب التاريخ اسمه على كثبان الرمال كحاكم أنفق ثروات النفط على أوهام الملوك، ليصحو بعدها على أطلال مشروع كان يفترض أن «يُرى من الفضاء»، فإذا به يختفي في الصحراء.










المصدر عادل عبده بشر / لا ميديا