دمشق/ خاص / لا ميديا -
تميزت المرحلة الماضية في سورية بأن الصراع على هويتها وموقعها وموقفها كان يتم ظاهرياً، من خلال رسم مؤسسات السلطة السورية؛ لكن الصراع الحقيقي والكبير، داخلياً وخارجياً، كان يتم وراء الكواليس.
ففي الداخل، على وقع المجازر التي ارتكبتها قوات السلطة في الساحل السوري والسويداء وبعض مناطق ريف دمشق وتفجير الكنيسة في دمشق والفلتان الأمني في كامل المدن والمناطق السورية، كانت تجري عملية رسم معالم السلطة الجديدة، إذ تم إعلان حكومة من لون واحد، وإعلان دستوري كرس سيطرة رأس النظام في دمشق (أحمد الشرع) والفصائل المسلحة المصنفة بمعظمها كتنظيمات «إرهابية».
كما تم عقد مؤتمر وطني شكلي لعدة ساعات، ويتم استكمال هذه الإجراءات بتعيين مجلس للشعب، من قبل الجولاني، ولجان قام الجولاني بتعيينها في كل محافظة.
ووراء هذه الإجراءات، كان يجري حراك صامت من القوى السياسية والمجتمعية التي استفاقت من صدمة التغيير في السلطة، إذ يجري صراع صامت، لكنه قوي ومؤثر، بين أتباع المذاهب الإسلامية الأشعرية والصوفية المعتدلة، التي ينتمي إليها معظم المسلمين السنة في سورية، وأصحاب المعتقدات الوهابية، التي تدين بها معظم الفصائل المسلحة التي تسيطر على الحكم، إلى حد اعتبار الوهابيين هذه المذاهب بأنها بدع، ويذهب البعض أكثر من ذلك إلى اعتبارهم مرتدين عن الإسلام.
ظهر هذا الصراع بشكل واضح خلال الاحتفال بمولد الرسول الكريم (ص) الذي يتم الاحتفال به سنوياً وفق برامج مستندة إلى عمق التاريخ والفن والطقوس الدينية في سورية، فيما تعتبره العقيدة الوهابية بدعة، وقامت بمنع الاحتفالات بالمناسبة هذا العام، ما أوجد حالة من الاستياء والتململ في الشارع الإسلامي، وظهور عدة شيوخ وبعض رموز النخب الاجتماعية في دمشق وحلب ومعظم المدن السورية، التي تحذر السلطة من التمادي في ممارساتها بحق الطائفة السنية.
كما كانت تتبلور قضية «الأقليات» لتفرض واقعاً جديداً لم يكن موجوداً سابقاً، ونمو المطالبات باللامركزية والفيدرالية، وحتى بالحكم الذاتي.
أما خارجياً، فقد تميزت الفترة الماضية بالصراع الشرس بين القوى والدول المعنية بالملف السوري، وكان أشرسه ما يدور بين الكيان «الإسرائيلي» وتركيا. فرئيس حكومة العدو «الإسرائيلي»، بنيامين نتنياهو، كان واضحاً في الحديث عن «إسرائيل الكبرى»، ومن على منبر الأمم المتحدة، وهذا ما بدأ على الأرض بالتمدد «الإسرائيلي» فيما تبقى من الجولان وفي المنطقة الجنوبية، والذي وصل إلى ريف دمشق، وتنفيذ عدة اعتداءات -برسائل واضحة- على مواقع ومقرات الرموز السيادية في سورية.
أما تركيا فلديها حلم «العثمانية الجديدة» وقيادة العالم الإسلامي، الذي يتصادم مع المشروع «الإسرائيلي»، ووصل إلى حد الصدام العسكري، وكانت «إسرائيل» المبادرة به، إذ قامت بقصف كل الأماكن التي حاولت تركيا التمركز وتثبيت تواجدها فيها، بشكل مباشر أو عبر الفصائل التي تديرها، كما حدث في تدمر وريف حلب والساحل السوري.
وفي موازاة هذا الصراع، كان ينمو الطموح السعودي على تزعم المنطقة العربية والإسلامية، والذي يصطدم مع الطموح التركي، ويتوجس من المشروع «الإسرائيلي». ووجد هذا الطموح السعودي سنداً أمريكياً وروسياً وأوروبياً وعربياً، تم التعبير عنه بشكل خاص باختيار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للسعودية كأول دولة يزورها بعد وصوله إلى البيت الأبيض، وهذا ما تم تفسيره بأن راية المنطقة أعطيت للسعودية، وليس لتركيا.
كما يوجد صراع لا يقل شراسة عن الأول، بين أمريكا وروسيا، ومن الخلف المجموعة الأوروبية، وخاصة فرنسا وألمانيا، والتي باتت تقاتل لتحافظ على ما تبقى لها من حضور جيوسياسي في العالم الجديد الذي يتشكل، والذي تفقد فيه أوروبا مكانتها ودورها، لحساب الصين والهند والقوى الدولية الصاعدة، ووجدت في سورية خيط أمل لذلك.
مع تسارع التطورات، بتنا اليوم على أعتاب مرحلة جديدة تتميز بتبلور ملامح صورة سورية، وخروج الصراع فيها وعليها من وراء الكواليس إلى العلن، إذ باتت السلطة في دمشق تحت سيف الاتهام بالمشاركة في المجازر والفلتان الأمني وخروج الصراع العقائدي بين الفصائل التي تستند إلى العقائد الوهابية والإخوانية وبقية المجتمع الإسلامي السني (والأقليات) وتنامي دور الأقليات، وبلورة قيادات مجتمعية وسياسية، وتعزيز المطالبة باللامركزية والفيدراليات في الساحل والسويداء ومناطق سيطرة قوات سورية الديمقراطية «قسد» في شمال شرق سورية، وصحوة الأحزاب والمجتمع المدني، والإعلان عنها، رغم عدم تفعيل قانون الأحزاب.
أبرز الخطوات العملية التي نتجت عن هذا الحراك كانت إعلان المجلس السياسي لمنطقة وسط وغرب سورية، وإعلان تشكيل المجلس العسكري والحرس الوطني في السويداء، وإعلان عدة تحالفات وتكتلات سياسية أبرزها الكتلة الوطنية السورية والتحالف الوطني السوري، وبروز اسم العميد مناف طلاس، بعد المحاضرة التي ألقاها في باريس، ودعوة الرئيسة السياسية لـ»قسد»، إلهام أحمد، لإلقاء كلمة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، مع ما تعني رمزية هذه الخطوة، إذ اتخذ الشرع من المناسبة فرصة لتكريس سلطته.
أما في القوى الإقليمية والدولية، فتبقى «إسرائيل» اللاعب الميداني الأكبر، مع تراجع الدور التركي، ونمو الدور السعودي سياسياً. كما برزت عودة روسيا للعب دور أكبر في سورية. وتبقى أمريكا عملياً اللاعب الأكبر في الميدان السياسي والعسكري، ويبقى لبريطانيا الدور الأكبر خلف كواليس كل ما يجري، مع حديث بأن الدور الإيراني لن يبقى بعيداً عن سورية.
مع هذا الحراك في وحول سورية، نستطيع التأكيد بأن الصراع مع الكيان «الإسرائيلي» يعتبر المؤثر الأول في كل ما يجري، داخلياً وخارجياً، لتشكيل صورة سورية وهويتها، ومستقبل سلطة الجولاني. وهذا يعطي أهمية خاصة للقاء المتوقع بين الجولاني ونتنياهو، برعاية الرئيس ترامب، على هاش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، والذي سيكون المؤشر الحقيقي إلى مسار وتوجهات كل هذا الحراك.
ووسط كل ذلك، يجري الحديث عن سيناريوهات عديدة لمستقبل سورية، بين دولة لامركزية أو فيدرالية، وعن تغييرات في هرم السلطة، بين ترميم وتعديل وتغيير جذري، وما زلنا نحتاج لبعض الوقت لمعرفة أي من هذه السيناريوهات سيكون له النصيب الأكبر في التنفيذ.