تقرير / لا ميديا -
في ليل غزة الطويل، حيث تختلط رائحة الدم برائحة التراب المحاصر، وحيث السماء مثقوبة بصواريخ لا تعرف الرحمة، ارتقى أنس الشريف، مراسل قناة «الجزيرة»، ورفاقه. لم يسقطوا على أرصفة النسيان، بل صعدوا إلى العلياء من خيمة صغيرة كانت أمام مستشفى الشفاء كآخر معاقل الكلمة الحرة.
كان الليل ثقيلاً، والناس يحصون أنفاسهم بين قصف وقصف، حين اخترقت صواريخ الاحتلال صمت الخيمة، ليتناثر الحبر ممزوجاً بالدم، ويسقط أنس ومحمد قريقع، ومعهما إبراهيم ظاهر، مؤمن عليوة، محمد نوفل، ومحمد الخالدي. كانوا وجوهاً تعرفها غزة كما تعرف وجه البحر، يركضون بالكاميرا في أزقة الدمار، يكتبون على جدران الخراب أن هذه الأرض ما زال فيها من يشهد.
الاحتلال لم يخفِ فعلته، بل أعلنها ببرود الجلاد: «قتلناهم لأنهم من حماس». هي الجملة ذاتها التي سبقت اغتيال أطباء وأكاديميين وأمهات، ذريعة جاهزة لغسل الدماء عن الأيدي الملطخة. لكن الحقيقة لا تحتاج تبريراً: لقد قُتلوا لأنهم كانوا أعين غزة، ولأن الكاميرا عند العدو أخطر من البندقية.

فصائل المقاومة تزف الشهداء
فصائل المقاومة زفت أنس ورفاقه شهداء ببيان يقطر ألماً ووفاءً، مؤكدة أن الكلمة الصادقة جبهة قتال لا تقل عن جبهات النار، وأن ما حدث ليس إلا محاولة يائسة لحجب صوت المظلومين. المنظمات الحقوقية أطلقت صيحاتها برغم عدم جدواها أمام الاحتلال. العفو الدولية قالت إن أي صراع حديث لم يشهد قتلاً للصحفيين بهذا الحجم. والاتحاد الدولي للصحافيين سمّى ما جرى «جريمة حرب». و»مراسلون بلا حدود» فضحت «الاستراتيجية التعتيمية» التي يتبعها الاحتلال منذ واحد وعشرين شهراً.
لكن وراء الأرقام والتقارير، هناك الحكاية التي لن تكتبها المكاتب المكيفة. أنس الشريف، الصحفي الذي ظل يطل على العالم من قلب النار، كان يعرف أن حياته على حافة الخطر؛ لكنه كان يعود كل يوم إلى الميدان، يحمل الكاميرا كما يحمل آخرون البنادق. في غزة، الصحافة ليست مهنة، إنها فعل مقاومة.

غزة لا تبكي
ما حدث أمام مجمع الشفاء لم يكن فقط جريمة ضد الصحافة، بل محاولة لقتل الشاهد الأخير قبل أن يُرتكب المزيد من المذابح في العتمة. أرادوا لغزة أن تصرخ بلا صوت، أن تبكي بلا صورة، أن تموت بلا شهادة. لكنهم، وهم يقتلون الصحفيين، أشعلوا في الذاكرة ما لن يطفئه النسيان.
غزة لا تبكي شهداءها كثيراً، فهي تعرف أن دمهم سيعود نهراً من الحكايات، وأن الكاميرا التي تحطمت تحت الركام ستُستبدل بأخرى، وأن الصوت الذي خنقوه سيعود يتردد في أزقة المدينة، أقوى مما كان. في غزة، حتى حين يسقط حَمَلة النور، يبقى الليل عاجزاً عن ابتلاع الفجر.

حزب الله يدين الجريمة الصهيونية المروعة
من جانبها أدانت العلاقات الإعلامية في حزب الله، في بيان، أمس، «الجريمة الوحشية البشعة، التي ارتكبها العدو ‏الصهيوني بحق ‏الصحفيين في قطاع غزة، والتي أدت إلى استشهاد ستة صحفيين، بعد قصف مباشر ‏ومتعمد طال خيمتهم في محيط مستشفى الشفاء في غزة».
واعتبر حزب الله أن هذه الحادثة «جريمة حرب ‏مكتملة الأركان، وتكشف وحشية هذا الكيان، وإجرامه، وانعدامه الأخلاقي ‌‏والإنساني».
كما أشار إلى أن «الاغتيال الممنهج للصحفيين، بعد أن اتخذ العدو الإسرائيلي قراراً باحتلال ‏كامل قطاع غزة، يأتي ‏بهدف إبعاد الإعلام عن دوره في كشف ما يقوم به الكيان ‏الصهيوني، وما سيقوم به من جرائم ومجازر ‏وإبادة جماعية وتجويع للناس، تمهيداً ‏لفرض التهجير القسري على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة».
وإذ تقدّم حزب الله بالتعازي إلى عوائل الشهداء، وإلى قناة «الجزيرة»، دعا المؤسسات الإعلامية والحقوقية والإنسانية ‏والمنظمات ‏الدولية كافة إلى «إدانة هذا الإجرام الصهيوني المتواصل ضد ‏الصحفيين والمؤسسات الإعلامية واتخاذ ‏الإجراءات الضرورية لمقاضاته أمام ‏المحاكم الدولية المختصة».‏

 536 انتهاكاً لحرية الإعلام في فلسطين خلال النصف الأول من 2025
وفي سياق جرائم العدو الصهيوني بحق الصحفيين، أصدرت لجنة دعم الصحفيين تقريراً وثّق 536 انتهاكاً بحق الصحفيين والمؤسسات الإعلامية خلال النصف الأول من العام 2025، بزيادة تقارب 50% عن الفترة نفسها من 2024 التي شهدت 357 انتهاكاً.
وبيّن التقرير أن الاحتلال الصهيوني والغاصبين ارتكبوا 505 انتهاكات، فيما سجلت 26 انتهاكاً من قبل سلطة عباس. هذه الانتهاكات طالت 439 صحفياً وصحفية، إضافة إلى 31 مؤسسة إعلامية.
ووفق التقرير، شكّلت جرائم القتل 10% من الانتهاكات، إذ استشهد 56 صحفياً وصحفية منذ بداية العام، معظمهم في قطاع غزة، فيما مثّلت حالات الاستهداف المباشر 22% من الحصيلة، تلتها انتهاكات المنع من التغطية وعرقلة العمل بنسبة 21%. كما سُجّلت إصابات جسدية، واختطافات، واحتجازات متكررة، إضافة إلى اعتداءات جسدية ولفظية، وتدمير منازل ومقرات إعلامية.
وأشار التقرير إلى أن الجرائم الصهيونية لم تقتصر على القتل أو الإصابة المباشرة، بل شملت سياسات ممنهجة لعرقلة العمل الصحفي، منها الاعتقال، والملاحقات القضائية، وحجب المؤسسات الإعلامية، وحملات التحريض، فضلاً عن القيود الرقمية وإغلاق الحسابات الصحفية على منصات التواصل.
وأكدت اللجنة أن هذه الأفعال ترقى لجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
وخلال تموز/ يوليو 2025 رصدت اللجنة نحو 69 جريمة بحق الإعلام الفلسطيني، وتصدّر القتل والاستهداف ومنع التغطية قائمة الانتهاكات.
ووفق التقرير، فقد استشهد 10 صحفيين وصحفيات خلال الشهر، ليرتفع عدد ضحايا الصحفيين منذ بداية العدوان إلى 274، منهم 66 خلال العام 2025 وحده. كما وثّقت اللجنة خمس حالات استهداف مباشر بالرصاص الحي وقنابل الغاز والصوت، وخمس حالات احتجاز، وأربع حالات اعتقال من قبل قوات الاحتلال، إضافة إلى أربع اعتقالات أخرى من قبل جهات فلسطينية.
والى جانب القتل، سجّل الشهر إصابات متعددة لصحفيين في الضفة وغزة جراء القصف وإطلاق النار، وتدمير منازل ثلاثة صحفيين، وتحطيم معدات إعلامية، ومنع فرق صحفية من تغطية الاقتحامات والاعتداءات الاستيطانية.

222 شهيداً تجويعاً
مع ارتقاء أنس ورفاقه، تواصل غزة نزيفها. وزارة الصحة في غزة أعلنت، أمس، ارتقاء 222 شهيداً بسبب التجويع وسوء التغذية، 101 منهم أطفال.
كما أعلنت الوزارة ارتفاع اجمالي الشهداء في غزة إلى أكثر من 61 ألف شهيد منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وعشرات الآلاف من الجرحى.

وصية الشهيد أنس الشريف
كان أنس الشريف يعلم أنه مشروع شهيد، وأن العدو يسعى خلفه، فكتب وصية للعالم نشرت في حسابة الرسمي على «إكس»، قال فيها: «هذه وصيّتي، ورسالتي الأخيرة.
إن وصلَتكم كلماتي هذه، فاعلموا أن إسرائيل قد نجحت في قتلي وإسكات صوتي.
بداية السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
يعلم الله أنني بذلت كل ما أملك من جهدٍ وقوة، لأكون سنداً وصوتاً لأبناء شعبي، مذ فتحت عيني على الحياة في أزقّة وحارات مخيّم جباليا للاجئين، وكان أملي أن يمدّ الله في عمري حتى أعود مع أهلي وأحبّتي إلى بلدتنا الأصلية: عسقلان المحتلة «المجدل»؛ لكن مشيئة الله كانت أسبق، وحكمه نافذ.
عشتُ الألم بكل تفاصيله، وذُقت الوجع والفقد مراراً، ورغم ذلك لم أتوانَ يوماً عن نقل الحقيقة كما هي، بلا تزوير أو تحريف، عسى أن يكون الله شاهداً على من سكتوا ومن قبلوا بقتلنا، ومن حاصروا أنفاسنا ولم تُحرّك أشلاء أطفالنا ونسائنا في قلوبهم ساكناً ولم يُوقِفوا المذبحة التي يتعرّض لها شعبنا منذ أكثر من عام ونصف.
أوصيكم بفلسطين، درةَ تاجِ المسلمين، ونبضَ قلبِ كلِّ حرٍّ في هذا العالم.
أوصيكم بأهلها، وبأطفالها المظلومين الصغار، الذين لم يُمهلهم العُمرُ ليحلموا ويعيشوا في أمانٍ وسلام، فقد سُحِقَت أجسادهم الطاهرة بآلاف الأطنان من القنابل والصواريخ الإسرائيلية، فتمزّقت، وتبعثرت أشلاؤهم على الجدران.
أوصيكم ألّا تُسكتكم القيود، ولا تُقعِدكم الحدود، وكونوا جُسوراً نحو تحرير البلاد والعباد، حتى تشرق شمسُ الكرامة والحرية على بلادنا السليبة.

أُوصيكم بأهلي خيراً.
أوصيكم بقُرّة عيني، ابنتي الحبيبة شام، التي لم تسعفني الأيّام لأراها تكبر كما كنتُ أحلم.
وأوصيكم بابني الغالي صلاح، الذي تمنيت أن أكون له عوناً ورفيق دربٍ حتى يشتدّ عوده، فيحمل عني الهمّ، ويُكمل الرسالة.
أوصيكم بوالدتي الحبيبة، التي ببركة دعائها وصلتُ لما وصلت إليه، وكانت دعواتها حصني، ونورها طريقي.
أدعو الله أن يُربط على قلبها، ويجزيها عنّي خير الجزاء.
وأوصيكم كذلك برفيقة العمر، زوجتي الحبيبة أم صلاح بيان، التي فرّقتنا الحرب لأيامٍ وشهورٍ طويلة؛ لكنها بقيت على العهد، ثابتة كجذع زيتونة لا ينحني، صابرة محتسبة، حملت الأمانة في غيابي بكلّ قوّة وإيمان.
أوصيكم أن تلتفوا حولهم، وأن تكونوا لهم سنداً بعد الله عزَّ وجلّ.
إن متُّ، فإنني أموت ثابتاً على المبدأ، وأُشهد اللهَ أني راضٍ بقضائه، مؤمنٌ بلقائه، ومتيقّن أن ما عند الله خيرٌ وأبقى.
اللهم تقبّلني في الشهداء، واغفر لي ما تقدّم من ذنبي وما تأخّر، واجعل دمي نوراً يُضيء درب الحرية لشعبي وأهلي.
سامحوني إن قصّرت، وادعوا لي بالرحمة، فإني مضيتُ على العهد، ولم أُغيّر ولم أُبدّل.
لا تنسوا غزة…
ولا تنسوني من صالح دعائكم بالمغفرة والقبول.

أنس جمال الشريف 06/04/2025».