الأمل معقود على ثقافة تعيد بناء الإنسان من خلال الدور الفاعل للمثقف الحر

حاوره/ توفيق عثمان الشرعبي - مرافئ لا -
يرى أن الأصوات الشعرية أكبر من أصوات الرصاص، وأن الشاعر هو طليعة المثقفين والمحرك للشعوب.
يمتلك المفردة الأدبية التي يؤثث بها مادته النقدية، ويتقن أدواته بمهارة عالية.
إنه الناقد الأكاديمي العراقي الدكتور سعد التميمي الذي قضى سنوات من عمره محاضراً في جامعتي إب وتعز، وفضل اليوم العودة الى المشهد 
الثقافي اليمني عبر صحيفة «لا».. فإلى تفاصيل حوار مائز وحضور فاعل.

حضور فاعل للثقافة والإبداع
  دكتور سعد التميمي نبدأ معك من قراءتك لواقع الإبداع الثقافي العربي في ظل ما تشهده البلدان العربية من صراعات وحروب؟
على الرغم مما تشهده المنطقة العربية من صراعات وتحولات سياسية واجتماعية، نتج عنها حروب ودمار وعنف طال الإنسان والمكان والثقافة والفكر، إلا أن الأمل معقود على الثقافة التي تستطيع أن تعيد بناء الإنسان من خلال الدور الفاعل للمثقف الحر الذي يؤمن بالحرية والمساواة وقبول الآخر، فالثقافة العربية حاضرة من خلال الإرث الحضاري الذي يمتد في عمق التاريخ، والنشاطات الثقافية المتواصلة في معظم المدن العربية رغم الظروف الصعبة التي تمر بها، مما يؤكد فاعلية الثقافة والإبداع في التفاعل مع الواقع، والاهتمام بالشرائح المهمشة كالمرأة والطفل، وتوفير فرص التعبير عن حاجاتهما من أجل تحقيق التنمية المستدامة، ولم تمنع الغربة المبدعين العرب من التواصل مع بيئتهم وجمهورهم من خلال التفاعل والتواصل، والإبداع بأشكاله المختلفة من شعر وقصة ورواية ونقد وموسيقى وتشكيل وسينما وغير ذلك حاضر وفاعل في بيئتنا العربية، مما يمنحنا أملا في غد أجمل وأفضل يعبر عن المتغيرات الوجودية والتحولات الثقافية التي يعيشها العرب في اللحظة الراهنة.

النقد يعيد الحياة للنص
  تظل العلاقة بين المبدع (عموماً) والناقد الأدبي متوترة منذ بدأت هذه العلاقة ـ ربما منذُ طلق امرؤ القيس زوجته في تلك الواقعة الشهيرة ـ لما تتضمنه من أبعاد نفسية وذاتية.. برأيك أين تكمن المشكلة، في الإبداع أم في النقد؟
قديما لم يقبل الشعراء بآراء النقاد فالفرزدق رد على منتقديه بقوله: «علينا أن نقول وعليكم أن تتأولوا»، فالمبدع ـ الشاعر أو القاص أو الروائي ـ ينتظر من الناقد دراسة نصوصه وتقديمها للمتلقين، لأن ذلك يعيد الحياة من جديد للنص من خلال فك شفراته والكشف عن جمالياته والتنويه بقدرات منتجه في التعامل مع اللغة وتفجير شحناتها العاطفية والدلالية والإيحائية، فالنقد يعد قراءة خاصة تعكس ثقافة الناقد وتستند الى مناهج ومدارس نقدية. 
أما بخصوص التوتر في العلاقة بين المبدع والناقد، فهو ظاهرة حاضرة على مر العصور، فبعض الشعراء يقولون نحن جيل بلا نقاد، لأنهم لا يؤمنون بالنقد إلا ما جمّل نصوصهم، وهذا أمر مرفوض، فالنقد أسهم في تعزيز وتعميق مظاهر التجديد والتحديث في الشعر، ونظّر لحركات التجديد، ومجانبة الموضوعية مرفوضة من الطرفين، سواء أكانت مجاملة الناقد للمبدع لغاية أو التحامل عليه، أو رفض المبدع لقراءة الناقد.

البعض يخافون النقد الموضوعي
  بكل تأكيد أن للنقد الأدبي مجالات واسعة دلالياً وتاريخيا ولغويا ونفسياً.. الخ.. من خلال تجربتك النقدية ما النوع النقدي الذي يخشاه المبدعون؟
مر النقد الحديث والمعاصر بمدارس ومناهج سياقية ونصية انتمت لما قبل الحداثة والحداثة وما بعد الحداثة، فضلا عن جذوره التراثية، وخلال العقود الأخيرة تخلص من المعيارية التي لازمته في بداياته، وأصبح علما يقوم على قواعد وأسس معرفية يجب أن يتسلح بها الناقد ليتمكن من تحليل النصوص وتقديم قراءة علمية تتسم بالموضوعية، ومهمة الناقد أحيانا تتطلب التصريح ببعض الحقائق التي أخفق فيها صاحب النص على مستوى المفردة أو التراكيب أو الصور، فضلا عن التأويلات الخاصة بالناقد التي في الغالب تتبع مرجعية الناقد وطبيعة المنهج الموظف في التحليل بعيدا عن أي اعتبارات شخصية، وهذا للأسف ما يخشاه بعض المبدعين الذين يرغبون بالمجاملة.

المشهد الأدبي في اليمن يتسم بالتطور والتميز
  من خلال مكوثك في اليمن محاضراً وناقداً لسنوات، ما هي سمات التميز للمشهد الأدبي اليمني؟ وأين وجدت المبدع اليمني في الشعر أم السرد؟ 
المشهد الثقافي والأدبي في اليمن يمتلك حضورا فاعلا من خلال أسماء مهمة مثل علي أحمد باكثير والزبيري والبردوني والمقالح ودماج وغيرهم، وفي مطلع التسعينيات من القرن الماضي تحولت اليمن إلى ساحة ثقافية وأدبية فاعلة على المستوى العربي، فاحتضنت العديد من المبدعين العرب وغير العرب، واحتضنت عددا كبيرا من النشاطات الثقافية، وبرز في الساحة الأدبية العديد من الشعراء والكتّاب والنقاد، وفي الوقت الذي برز فيه عدد كبير من الشعراء والشواعر كان هناك عدد غير قليل من الكتاب الذين برزوا في كتابة القصة والرواية والقائمة تطول، فهناك شوقي شفيق ومحمد حسين هيثم (رحمه الله) ومحمد الشيباني وحسن الشرفي (رحمه الله) وهدى أبلان ونبيلة الزبير وأحمد العواضي وجميل مفرح وصلاح الدكاك وعلوان الجيلاني وعبدالسلام الكبسي وعلي المقري ومحمد الغربي ووجدي الأهدل وفكري قاسم ونبيل سبيع ومحمد عبيد ومحمد القعود وابتسام المتوكل ود. آمنة يوسف ونادية الكوكباني وهدى العطاس وبشرى المقطري، وعذرا لمن لم أذكرهم، لأن القائمة ستطول، وعلى الرغم من أن كتاباتي كانت مخصصة للشعر، إلا أن السرد كان له حضوره الواضح.
أما أبرز سمات المشهد الأدبي في اليمن فهو التطور السريع والتميز في الكتابة والحضور والاستمرارية، فضلا عن بروز العنصر الشبابي والنسوي بشكل مميز.

دراسات رصينة وتجارب شبابية
 وما تقييمك لوضع النقد الأدبي في اليمن؟
النقد الأدبي في مرجعيته الثقافية والفكرية يتطلب تفعيل دور الجامعات في تطوير مناهجها لتنجح في فكر نقدي ونقاد يتناغم مع التطور المعرفي والفكري في العالم، وما يحدث من ثورات على مستوى المناهج، وعلى الرغم من الأصوات الكثيرة التي تنطلق من هنا وهناك بأن النقد غائب عن ساحة الإبداع، وأن ما يكتب لا يعكس حركة نقدية، إلا أن ذلك لا ينفي وجود جهود نقدية مهمة في المشرق العربي ومغربه، وفي اليمن شهد النقد تطورا ملحوظا في العقدين الأخيرين، وبرز عدد من النقاد الأكاديميين الذين قدموا دراسات رصينة عن الأدب اليمني، فضلا عن الكتابات الشابة التي تندرج تحت باب النقد الصحفي، وقد أسهم النقد في تطور تجارب المبدعين الشباب.

المثقفون أسهموا في تطوير وازدهار الصحافة
 ظل الناقد التميمي لسنوات يكتب قراءات نقدية على صفحات الملاحق الثقافية.. ما تقييمك للواقع الثقافي في الممارسات الصحافية في ظل ارتباط أكثر المثقفين بالصحافة؟
اعتمدت الصحافة منذ نشأتها على الأدب والنقد بأشكالهما المختلفة، وأصبحت الصحافة من أهم منابر الثقافة الفاعلة، فضلا عن أنها منبر للمجالات الإبداعية المختلفة، أما ارتباط أكثر المثقفين بها فذلك يرجع لقربها من طبيعة الإبداع، والنقد الصحفي في الغالب يقوم على المتابعة السريعة وعرض المادة الإبداعية. أما الواقع الثقافي فحاله حال المؤسسات الصحافية الثقافية والأدبية الأخرى، إذ تجد فيها الغث والسمين، فنحن نواجه أحيانا كتابات أكاديمية ضعيفة مثلما نجد دراسات أكاديمية رصينة، كذلك الحال في الصحافة فقد نجد نصوصا ومقالات نقدية ضعيفة وقد نجد نصوصا ومقالات نقدية عالية المستوى، لكن الأكيد أن انخراط المثقفين في الصحافة سيساعد على تطوير وازدهار الصحافة بشكل عام. ومما يميز الصحافة في اليمن الاهتمام الواسع بالصفحة الثقافية، مما ساعد في توفير الفرص للمبدعين من أجل تطوير مهاراتهم. 

النشر الإلكتروني لن يستبدل الورقي
  دكتور سعد التميمي، كثير من الكتاب غادروا الواقع إلى المواقع الإلكترونية.. ما مرد ذلك من وجهة نظرك؟ وهل أثرت الثورة الرقمية على إبداعهم؟
مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي تحول كثير من المبدعين إلى نشر إبداعهم في موقع التواصل، وهناك من ينشر في الصحف والمجلات الورقية، والمواقع الإلكترونية تماشيا مع ثقافة العصر، إذ كثير من المتلقين يفضلون التواصل من خلال النافذة الإلكترونية، بل في ظل جائحة كورونا أصبحت النافذة الإلكترونية هي الملاذ الوحيد أمام المبدع للتواصل مع جمهوره، خصوصاً في النشاطات الحية، ومع ذلك يبقى للوسيلة الورقية (الكتاب والمجلة والصحيفة) حضورها جنبا إلى جنب مع وسائل التواصل الإلكتروني التي لا تخلو من سلبيات، لعل من أهمها مجانية النشر تحت عنوان الإبداع بأشكاله المختلفة والنقد دون رقابة.

يبقى دائما على قدر المسؤولية
  هل نستطيع القول: إن الجيل الأدبي اليوم في محور المقاومة والممانعة يجسد الامتداد الحقيقي للنص الثوري منذ استشهاد الإمام علي عليه السلام؟
يبقى الأدب الذي يعالج القضايا المصيرية ويناصر حرية الإنسان والوقوف في وجه الظلم، يبقى على قدر المسؤولية، ويحمل السمات ذاتها على مر العصور، ويتميز بالثبات والاستقلالية.

على منصة الإبداع
  وأنت تقف على سدة منصة الإبداع في بغداد.. أي المجالات الأدبية أكثر اشتغالاً على هذه المنصة الإبداعية؟
منصة الإبداع هي إحدى منصات بغداد، مدينة الإبداع الأدبي ـ اليونسكو، بعد أن انضمت بغداد إلى شبكة مدن الإبداع الأدبي في منظمة اليونسكو عام 2015، ومجالات الإبداع مفتوحة، وغايتها التعريف بالمبدعين من شعراء وكتاب ونقاد وموسيقيين ومسرحيين وتشكيليين، لكن يبقى الشعراء والكتّاب يشغلون الحيز الأكبر. 
  من الذي يسبق إلى منصة الناقد سعد التميمي، الشخوص أم النصوص؟
في الغالب النص هو الدافع الى التعريف بالأديب ومحاورته في تجربته ومسيرته الإبداعية.

اليمن السعيد حاضر معي
  كلمة أخيرة يحب الناقد الكبير سعد التميمي أن يوجهها لمعشوقته اليمن؟
اليمن السعيد بأرضه وسمائه وشعبه حاضر معي في كل وقت، فلي فيه ذكريات وذكريات جمعتني بمبدعين وأناس طيبتهم فطرية، فضلاً عن المكان والطبيعة الخلابة، وطالما رددت مع نفسي مقولة الشاعر المبدع عبدالعزيز المقالح «لا بد من صنعاء وإن طال السفر»، صنعاء وعدن وإب وتعز وحضرموت وكوكبان وحجة وعمران والمحويت، مدن لازالت في الذاكرة، دعواتي أن يعود السلام إلى ربوع اليمن الحبيب، وأن تعود الألفة إلى شعبه، وتنتهي الحروب لتعود الثقافة والبناء والمحبة.