بشرى الغيلي/ لا ميديا

ما إن تجاوزت عتبة بوابة الكافيه حتى استقبلتني الموسيقى الهادئة بصوت يملأ المكان، 
مقاعد هنا وهناك كل زبون بحسب رغبته، سواء الجلوس في الهواءِ الطلق بين الشجر وأمام نافورة الماء، أو بالصالاتِ الداخلية، ألقيت نظرة عامة 
على تلك الوجوه التي تبدو عليها مظاهر النعمة والثراء، وليسوا من طبقةِ الكادحين الذين لا يجرؤون على ارتياد تلك المقاهي الفارهة، قلتُ لنفسي سأضحي 
بما في محفظتي وأطلب كأساً من (الليمون)، فقال لي (المباشر) إنه بــ800 ريال، أي ما يعادل 1.25 دولار أمريكي، وقال إن الكأس الشاي بــ500 ريال (ما يعادل 0.75 دولار)، والكابتشينو بــ1000 ريال (1.56 دولار)، المهم استقررت على كأس الليمون ليس لمجاراة أولئك الزبائن الأنيقين، ولكن لفضولي الصحفي، ومعرفة 
ما هي الميزة التي يختلف بها مذاقه بهذا السعر الباهظ والمغاير لسعر الليمون الذي كنت أشتريه من كفتيريا الجامعة بــ70 ريالاً... 
تذوقته بسلامتي ولم أجد فيه أي اختلاف عن عصير الليمون (أبو 70 ريالاً) الذي كنت أحتسيه في باحةِ الكلية آنذاك... فقط زاد طول الكأس (بنانة) واحدة..


فجوة مجتمعية
يرى البعض أن الأسعار الخيالية قد تكون مبالغاً فيها بالكافيهات المنتشرة بالعاصمة صنعاء، والتي تعيش جواً غير الجو الذي يعيشه الوضع الاقتصادي لعامة الشعبِ اليمني الكادح، والحصار وانقطاع المرتبات، وانهيار العملة المحلية أمام الارتفاع الجنوني للدولار، مما يجعل الفقراء، وذوي الدخل المنقطع يرونها شيئاً فائضاً عن حاجتهم، لتبقى تلك الكافيهات حكراً على طبقةِ الموسرين، والمسؤولين، والناشطين مع المنظمات التي تدفع بالدولار لموظفيها، أو الناشطين في المبادراتِ الشبابية، وبعض من طلابِ الجامعات المقتدرين. بدورها صحيفة (لا) ناقشت ظاهرة ارتفاع أسعار الكافيهات مع بعضٍ ممن يرتادونها، وكل منهم له وجهة نظر مختلفة، فيما برر البعض الآخر أن تلك الكافيهات هدفها فرض نمط استهلاكي معين، ولا غرابة في ارتفاع أسعارها..

ينبغي عدم تسطيح الظاهرة
تنظر للظاهرة من وجهة نظرها، وتعطي لها أبعاداً أخرى، من خلال حديثها لصحيفة (لا).. مليحة الأسعدي ـ شاعرة ورئيسة مؤسسة سلام للتنمية ـ تقول: الحديث عن الظاهرة كونها انتشرت بشكل أكبر في السنوات الأخيرة، فكانت هي الملجأ الوحيد بعد انقطاع الكهرباء، وارتفاع تكلفة الإنترنت وغيرها، ولعل هذا السبب هو الذي جعل من ارتيادها احتياجاً من جهة أكثر من كونه ترفيهاً، كما أنها من جهة ثانية بالنسبة لآخرين تعد مكاناً مناسباً لقضاء الوقت، خصوصاً من أولئك الذين لا يجتمعون في مقايل القات الخاصة التي تنتشر في طول البلاد وعرضها.
وتضيف الأسعدي: وليس من الجيد أبداً تسطيح وجودها وحصر الأمر في الجوانب المالية، فَلَو لم يكن هناك احتياج لما كثر وجودها مؤخراً، ولعل تكلفة المشروبات والسندوتشات أو حتى تكلفة قنينة الماء المرتفعة نسبياً عن قيمتها خارج الكافيهات، يحتسب خدمات أخرى يجدها مرتادوها تستحق ذلك.. ولا ننسى وجود بعض الكافيهات التي أغلقت بسبب عدم جدوى الربح فيها.

أغلب فعاليتها للنخبة
بينما منار شكري ـ إعلامية ـ تقول: ارتفاع الأسعار طال كل السلع، وليس فقط الخدمة التي تقدمها الكافيهات التي تعتبر باهظة حتى من قبل ارتفاع الأسعار، ونجد أن أسعارها سياحية ومتوقعة عند أغلب مرتاديها، ومعروفة لدى الجميع.. فهي رفاهية عند البعض مثلي أنا حيث تكون إما لعمل، أو اجتماع أو جلسة جميلة مع الصديقات بين الحين والآخر. وأغلب الفعاليات التي تقام فيها هي للنخبة التي تملك قدرة شرائية أو مترقبة لمثل هذه الفعاليات أو مدفوعة الأجر من قبل الجهات الداعمة..

محددة لفئة معينة... وارتفاعها بديهي
جوهرة عبدالله ـ إعلامية ـ توضح من وجهة نظرها قائلة: يرى البعض أنها باهظة الثمن، لكن تلك الكافيهات محددة لفئة معينة من الناس، وارتفاعها شيء بديهي وطبيعي، بحيث تناسب أسعار البضائع المرتفعة.
وعن النمط المغاير الذي ترسمه هذه الكافيهات، تضيف عبدالله أنه ليس من شأنها ما يعانيه الشعب من ظروفٍ صعبة، يجب أن نؤمن أن هناك فوارق اجتماعية، فقير وغني، وهكذا نوع الكافيهات تكون مخصصة لذوي الدخل المرتفع، وليس للبسطاء والمعسرين. وتختم أن مخرجات الفعاليات الباهظة التكلفة هي من شأن ذوي الاختصاص، ولا شأن لمرتاديها، كون منظمي الفعاليات من منظمات دولية، وروادها من رجال الأعمال، وأبناء التجار، وذوي الدخل المرتفع ومتوسطي الدخل أيضاً. 

أهمّ كيس البُر
منصور الجرادي ـ رئيس مؤسسة وجوه ـ يقول: لم يعد يهم كثيراً ارتياد هذه المقاهي، ويضيف: أنا صرتُ أهم كيس البُر، والمعيشة، وهجر المقاهي حتمي مع هذا الغلاء، ومن يجرؤون على دخولها يهربون من واقعهم، ومن الحرب، ومن تضييق الحريات، وجمهورها من النخبة التي تستطيع أن تدفع المال.

المواطن العادي لا نجده هنا
انتشار أسعارها ليس في العاصمة صنعاء فقط، بل في بعض المحافظات اليمنية ترتفع الأسعار فيها بشكل غير عادي، أو فوق تكلفة المواطن العادي، حتى أصبحت شبه خاصة بالنخبة أو الطبقة الأكثر دخلاً في المجتمع، بتلك الكلمات بدأت مداخلتها لصحيفة (لا) الصحفية وداد البدوي، وتضيف: عادة أصبحت توسم هذه الطبقة بأنها طبقة المجتمع المدني للأسف الشديد، فأغلب من يرتاد الكافيهات هم المجتمع المدني في اليمن الذين من المفترض أن يشتغلوا على قضايا المواطن، ويشعروا به بشكل أفضل، لكن للأسف هذا هو القطاع الذي مازال يعمل في اليمن بشكل كبير، وما زال لديه دخل يستطيع العاملون فيه أن يرتادوا هذه الأماكن، أما المواطن العادي فلا نجده في هذه الكافيهات، هناك بعض المشائخ، والشخصيات الاجتماعية الكبيرة التي بدأت ترتاد هذه الكافيهات، وهذه الفئات لديها من المال ما تستطيع أن تغطي بالنفقات مثل هذه الأماكن.
وتستطرد البدوي: وبشكل عام فكرة ارتياد الكافيهات فكرة رائعة جداً، كونها المتنفس الوحيد، ونحن نضطر للذهابِ إليها ونضطر لتحمل هذه التكاليف، شخصياً أضطر لتحمل هذه التكاليف، وأذهب إليها، لأنني أجد فيها متنفساً وبيئة معقولة أستطيع من خلالها الالتقاء بالزملاء والأصدقاء، وأن أنجز أعمالاً أحياناً خاصة مع انقطاعِ الكهرباء وعدم وجود الإنترنت بالشكل المطلوب، وهذه الكافيهات توفر الخدمة، ونضطر أن ندفع تكلفة هذه الخدمات، وليس تكلفة المأكل والمشرب في هذا المكان، وندفع تكلفة أن نلتقي بأصدقائنا دون حرج أو موانع اجتماعية، وندفع تكلفة خدمتي الكهرباء والإنترنت في المقامِ الأول، وأسعارها المرتفعة بشكل كبير وغير مقبولة، لأنه لا يوجد لها أي منافس في أمانة العاصمة.

لمن استطاع إليها سبيلاً
أما عن النمطِ الاستهلاكي المغاير الذي تعمل عليه هذه الكافيهات، تضيف البدوي: فعلياً هو نمط استهلاكي مغاير، لكن ليس بذلك الشكل، ومازال في حد المعقول من وجهة نظري مقارنة بارتفاع الأسعار في كل الأماكن، وأيضاً بالإيجارات، والكهرباء، وغيرها، والكافيهات تدفع فواتير باهظة مقارنة بسعر اليوم ومقارنة بالخدمات التي تقدمها، فالكافيه يضطر أن يفتح كهرباء لمدة 24 ساعة، وهي تكلفة غير عادية، كذلك تكلفة الحراسة والعمال، وهذا هو الواقع، فهي لمن استطاع إليها سبيلاً حقيقة، وليس لكل الناس.
وتختتم البدوي: من وجهة نظري الكافيه ليس بيئة عمل، ونذهب للكافيهات لأنها أصبحت بالنسبة لنا بديلاً عن المكاتب، وبيئة التقاء بالأصدقاء، ونحن في مجتمع محافظ كما هو معلوم، لذا ندفع ثمن هذا وذاك.

أصبحت بديلاً عن المكاتب
تتفق البدوي مع ما تم طرحه بأن الفعاليات قد تقام بشكلٍ مبالغ فيه سواء كانت بالكافيه أو فندق 5 نجوم، وأن الصرف يكون باذخاً، وتضيف: في الوقت الذي نحتاج أن نصرف هذه الأموال في أماكن أخرى تفيد المواطن المحتاج كمساعدة مالية قد تكون سبباً في إعالة أسرة أو عائلة محتاجة بدلاً من أن تذهب في فنادق 5 نجوم والكافيهات التي لا تشعر فيها بحاجة الناس، ولا يمكن تتلمس احتياج مواطن من خلالها. وتختم: والكثير من هذه الفعاليات لا تهدف أن تخرج بمخرج جيد طالما ذهبت لتختار كافيهاً أسعاره مرتفعة وفندقاً 5 نجوم، فتصبح فعالية لصرف الميزانيات لا أقل ولا أكثر، وأكثر روادها كما لاحظت في الفترة الأخيرة هم المجتمع المدني، فئة الشباب والشابات العاملين في المبادرات والمنظمات، وهؤلاء يرتادونها بهدف العمل، لأنهم في الأغلب ليس لديهم مقرات عمل حقيقية، كذلك لاحظتُ مؤخراً ارتيادها من قبل المشائخ والشخصيات الاجتماعية، وأحياناً مسؤولين نلتقيهم في الكافيهات، وتجار ومشائخ قبيلة، أما شبان وشابات المجتمع المدني فهؤلاء يرتادونها لتوفر لهم بيئة عمل، لأنهم فقدوا مكاتبهم بسبب الحرب.  


مفارقات..
فيما ينتقد البعض أن يُصرف مثلاً على فعالية خاصة بمكافحةِ الجوع آلاف الدولارات، وكان الأحرى بها أن تصرف على من يعانون سوء التغذية، وقد لا تخرج الفعالية بأي مخرجات يستفيد منها المعنيون بالأمر... هنا تعطي مليحة الأسعدي وجهة نظرها: لا يمكن أن تنجز أية فعاليات أو أنشطة أو مشاريع لا تحمل أهدافاً حقيقية، فالعالم ليس ساذجاً حتى ينفق أمواله في هواء وخواء، لأن هذه الجهات المانحة محاسبة أمام شعوبها عن كل ما يتم إنفاقه قبل أن يحاسبها المستفيدون منها، والمسألة نسبية، فما تراه أنت غير مفيد، يراه غيرك مهماً ومفيداً. كما أود الإشارة إلى أن ملايين الدولارات تعود إلى شعوبها دون أن يستفيد منها المجتمع المستهدف، لضعف قدرات المجتمع المدني على استيعابها كلها في مشاريع ملتزمة بالمعايير العالية التي تفرضها الجهات المانحة للإنفاق، مما يضيع على اليمن الكثير من المنح الحقيقية.

أجواء عالمية
منار شكري لها تجربة مع الكافيهات التي تضيف لمحورنا المطروح عن البذخ المبالغ فيه والمغاير لما يعانيه معظم أبناء الشعب من وضع اقتصادي مختلف، تقول: فعلاً وللمصداقية عندما أجلس في أي كافيه مع الصديقات أو للاستجمام، والهدوء، أجد أنه لا أثر للحروب والمعاناة، وكأن شعبنا يعيش في باريس بقائمة حلويات لا تجدها إلا بأرقى المطاعم العالمية. وتستدرك شكري قائلة: ولكن بالنسبة لي أعتبرها متنفساً لنا كشباب، وأماكن نلتقي بها بعيداً عن الضوضاء، وبخاصة أنها بيئة مشجعة، حيث بعض الكافيهات فيها إنترنت وموسيقى وركن للكتب، والقراءة، واجتماعات العمل، والترفيه الإيجابي والهادف.