في العقدين الأخيرين ظهرت على الساحة الإقليمية، والعربية منها على وجه الخصوص، أسماء لشخصيات ليس لديها أي رصيد سياسي أو حقوقي، وفي لحظة ارتباك زمني، وبين ليلة وضحاها، أصبحوا من رموز الكفاح والنضال في بلدانهم، ومع أن الرموز الوطنية والثورية الحقة لا تحظى بأي اهتمام في الشارع الغربي، فإن السلطات الغربية احتضنت الرموز الجدد باعتبارهم من قادة العصر، وقدمتهم كأبطال عظام ومن مغيري مجرى التاريخ.
كيف تم ذلك؟ وكيف أصبح هؤلاء قادة عصرهم؟ وما السر الذي يقف وراء ذلك؟ هذا ما سنعرفه من خلال جملة من الحقائق والتناقضات التي تكشفها الوقائع والشواهد.
ثورة برتقالية
يوليا تيموشينكو معارضة أوكرانية وصفها اA273;علام الغربي بأنها قائدة الثورة البرتقالية التي انفجرت بين عامي 2004 و2005م، في أوكرانيا.
تيموشينكو التي تسلمت منصب رئاسة الوزراء عقب الثورة، أصبحت مليونيرة، ومن أكبر الشخصيات البرجوازية في أوكرانيا، إلا أن الحقائق التي سربتها أجهزة المخابرات الروسية أثبتت أنها عميلة الـ(سي آي إيه) اA271;مريكية، وأوضحت الوثائق أن أجهزة المخابرات الأمريكية جندت يوليا لقلب نظام الحكم في أوكرانيا، ووفرت لها كل الظروف لقيادة ثورة برتقالية تنجب نظاماً مناهضاً للدولة الروسية الجارة.

خلق الإرهاب
لم تجدِ نفعاً حرب الـ8 سنوات التي زجت بها السلطات اA271;مريكية بإيعاز أمريكي عبر دول الخليج للعراق بشن حرب شعواء على إيران، بعد أشهر من الثورة اA273;سلامية التي تبنت شعار المقاومة المناهض A273;سرائيل وأمريكا، ولم يجدِ أيضاً الحصار الخانق الذي تعرضت له إيران لمدة 12 عاماً، A273;جهاض حلم الثورة المعارض، حتى بات الخيار اA271;مريكي اA271;خير هو صناعة أيقونات فارغة تتحدث من على منصات الاستبداد باسم الشعب اA273;يراني، وتسرد الخطابات الرنانة في بارات مفرغة بلا جمهور وبلا معارضة.
مريم جوري معارضة إيرانية مقيمة في باريس، شنت عدة حملات تحريضية على النظام اA273;يراني في المحافل الدولية، منذ سنوات، إلا أنها لم تستطع أن تحدث صدى في أوساط الشعب اA273;يراني، سوى البعض القليل منهم الذين يعيشون خارج إيران، وبشعارات دينية طائفية تقول جوري بأنها باتت قريبة من إسقاط النظام اA273;يراني.
إذا ما نظرنا للكثير من اA271;مور التي تدور حول عمل مريم جوري، والشهرة التي اكتسبتها في المجتمع الغربي، سيكون واضحاً أن السر الحقيقي الذي يقف خلفها هو أمريكا، ليس من سبيل رمي التهم وحسب، بل إن حقائق كثيرة تؤكد أن جوري عميلة الاستخبارات الأمريكية، حيث نقلت صحيفة (المنار) الفلسطينية عن مصدر دبلوماسي أوروبي أن طاقماً استخبارياً سعودياً فرنسياً مشتركاً عقد اجتماعاً مع مسؤولين من (الكيان الإسرائيلي)، لربط علاقات متينة بين الجماعات الإرهابية وتل أبيب، عبر منظمة إرهابية سرية تدعى (خلق)، ترأسها المعارضة اA273;يرانية مريم جوري.
وقد أعقب الاجتماع سلسلة لقاءات بين مريم جوري ومسؤولين من الموساد الإسرائيلي، في منزل السفير السعودي بباريس.
وفي حين تصارح إسرائيل بعلاقتها مع النظام السعودي، فإن اA271;خيرة من أكبر الداعمين للحملات التحريضية التي تقودها جوري ضد السلطات الإيرانية، تلك التي جعلت مراسل قناة (الحدث) السعودية يصرخ بأعلى صوته (يسقط مجوس الخميني)، أثناء تغطيته لأحد مؤتمرات مريم جوري في باريس، العام الماضي.
وفيما لا يعرف الشعب اA273;يراني شيئاً عن مريم جوري، فإن اA271;نظمة الغربية تقدمها كقائدة ثورة ومناضلة عظيمة.

كرمان النوبلية
في زخم أحداث الربيع العربي تسلق إلى المشهد شخصيات شبابية لا أحد يعرف من أين أتت وما تاريخها وكيف أخذت صيتاً واسعاً على حساب ملايين الناس المغلوبة على أمرها.
توكل كرمان ناشطة يمنية إخوانية حصلت على جائزة نوبل للسلام عام 2011م، واختارتها مجلة (التايم) اA271;مريكية في المرتبة الأولى A271;كثر النساء ثورية في التاريخ.
لقد أثار هذا التوصيف المبالغ فيه حفيظة الكثير من المتابعين الذين يعرفون توكل كرمان عن قرب، حيث رأوا أن الاحتفاء الدولي بكرمان لا يمكن أن يكون استحقاقاً مقابل عملها الثوري أو حتى السلمي، واستناداً على ذلك لم تسجل الناشطة موقفاً سلمياً لتنال جائزة نوبل للسلام، في حين يتحدث مراقبون دوليون بسخرية أن منح جائزة نوبل لليمنية توكل كرمان أشبه بتعيين مدرس الجغرافيا أستاذاً للطب، فما حدث يتناقض تماماً مع الجائزة نفسها أدبياً وأخلاقياً، ومع الواقع أيضاً، فإذا رجعنا قليلاً لتاريخ منح الجائزة لها في زخم أحداث 2011م، سنجد أن كرمان كانت الوحيدة التي تبنت سياسة هجومية ضد النظام اليمني آنذاك، حيث كانت تحرض على مهاجمة المقرات الحكومية والعسكرية، وهي التي قادت حملة اقتحام القصر الجمهوري في صنعاء، وصرحت كرمان من على شاشة (الجزيرة) وقتئذ أنه يجب التعامل مع نظام صالح بالقوة، ولم تندد بحادثة تفجير دار الرئاسة التي تعرض لها الرئيس السابق علي عبدالله صالح.
هذه التناقضات الواضحة ليست وحدها دليلاً على ضلوع قوى غربية وراء صناعة شخصية ثورية اسمها توكل كرمان، فإن تحرك اA271;خيرة الواسع على الساحة الدولية بعد منحها الجائزة، ولقاءاتها مع شخصيات أمريكية إسرائيلية، دليل واضح يعري الحقيقة أمام العالم، فبجانب قيام قوى الرجعية والاستعمار بصناعة أراجوزات أممية تقود حركات الشعوب، فإن الدور الذي تمارسه كرمان يكشف لنا دور التنظيم الدولي للإخوان الذي تنتمي إليه، حيث تشير المعلومات إلى أن توكل تقود حملة تطبيع العلاقات بين تركيا وإسرائيل، وقد ذكرت القناة الثانية الإسرائيلية نقلاً عن صحيفة (يديعوت أحرونوت)، أن (الناشطة) توكل كرمان التقت بشخصيات إسرائيلية، منها إعلامية في مدينة ميونيخ، في مارس 2016، قبل أن تقوم بزيارة إسرائيل في 2 أبريل من العام نفسه.

شخصيات الظل
وائل غنيم شاب مصري، أحد شخصيات الظل التي عرفتها كيبوردات اA271;جهزة الغربية فجأة من أبطال التاريخ، وبالرغم من أن الرجل لا يملك أي سجل نضالي أو ثوري، فعلى ما يبدو أن صفحته التي أنشأها على (فيسبوك) بعنوان (كلنا خالد سعيد)، كانت كفيلة لتقفز به إلى مرتبة عمالقة عصره صبيحة ثورة 25 يناير.
الكثير من المراقبين للشأن العربي آنذاك أكدوا أن غنيم هو أحد الأراجوزات اA271;ممية التي صنعتها أجهزة المخابرات الأمريكية، وزرعتها في صفوف الجماهير، مشيرين إلى أنه تم تجنيده عن طريق زوجته اA271;مريكية أثناء دراسته في أمريكا، ويبدو ذلك أقرب إلى الحقيقة، فقد عينته شركة (جوجل) اA271;مريكية مديراً تنفيذياً لها في الشرق الأوسط، في وقت قدمت أجهزة المخابرات المصرية وثائق للنائب العام المصري الراحل هشام بركات، والتي نشرتها صحيفة (الدايلي تلغراف) البريطانية، تكشف تورط وائل غنيم وعلاقته بأجهزة المخابرات الأمريكية، وقد أظهرت الوثائق حصول وائل غنيم ومجموعة من الناشطين الشباب على مبالغ مالية وصلت إلى مليار و600 مليون جنيه مصري، من الخارجية الأمريكية، خلال فترة أحداث ثورة 25 يناير.

موديل آخر
لينا بن مهنى ناشطة تونسية، موديل آخر لفخر الصناعة اA271;مريكية، وبالرغم من أن عملها محدود وغامض، فقد رشحت لجائزة نوبل للسلام مرتين، وأخذت شهرة كبيرة داخل تونس، ما أثار حولها شكوك الكثير من المراقبين، حتى تبين لاحقاً أنها كانت تعمل مدونة في موقع (غلوبال فويس أون لاين)، وهو موقع يعمل على نقل اA271;خبار، ويتبع مركز (بيركمان) للإنترنت التابع للحكومة الفيدرالية اA271;مريكية التي تموله بنحو 1.5 مليون دولار سنوياً.
في 2008م حصلت لينا على منحة من برنامج منح فولبرايت المخترق، وهو البرنامج الشهير الذي استخدمته الـ(سي آي إيه) لسنوات طويلة، لتجنيد العملاء في أوروبا الشرقية والفلبين وكوريا الجنوبية وأمريكا اللاتينية والقوقاز.
إذا ما لاحظنا تاريخ هذه الشخصيات، سنجد أن هناك رابطاً مشتركاً يجمع بينها، وهو أن جميعها درست في معاهد وجامعات أمريكية، وعلى نفقة المؤسسات اA271;مريكية، وجميعها حصلت على جوائز وتكريمات من مؤسسات ومنظمات غربية.
حيث كشف (ويكيليكس) أن معهد ألبرت آينشتاين ومنظمة فريدوم هاوس اA271;مريكيين مسؤولان عن تدريب وتمويل الكثير من النشطاء السياسيين الذين برزوا إبان أحداث الربيع العربي، منهم الناشطون أسماء محفوظ وإسراء عبدالفتاح اللتان اختارتهما مجلة (فورين بوليسي) اA271;مريكية على قائمة أكثر شخصيات مؤثرة في العالم.
وكشف (ويكيليكس) عام 2013م، عن شبكة استخباراتية تتبع جهاز الأمن القومي اA271;مريكي، تدعى (ستراتفور)، تهتم مراقبة الناشطين في العالم والمدونات ومسؤولي الشركات، وتتبع تحركاتهم، وتعمل على تجنيدهم من خلال منحهم جوائز دولية ومزايا دبلوماسية باعتبارهم مناضلين، ويصل اA271;مر إلى إيصالهم لمناصب حكومية رفيعة حتى يتمكنوا من خدمتهم أكثر.

صناعة الاراجوزات
في حين تؤكد الحقائق أن الأسماء التي ظهرت فجأة إبان الربيع العربي هي صناعة غربية، فإن حالة الترهل اA271;مريكي الواضح في المنطقة العربية، خصوصاً بعد فشل مجمل الرهانات التي تذرعت بها للسيطرة على الشعوب، كمحاربة اA273;رهاب، ومخاوفها من سير غضب الشعوب الهائجة في الطريق المعادي لها، يستجدي بحثها عن خيارات بديلة، وA271;سباب كثيرة يطرحها الكثير من الباحثين، يبدو التوجه اA271;مريكي لصناعة أراجوزات أممية جديدة تقود تهييج الجماهير، خياراً مناسباً لتحقيق أجنداتها، فهي طريقة سهلة توفر الكثير من الخسائر المادية والبشرية، وبجانب ذلك فإنه يتيح للقوى التحرك بأريحية أوساط الشعوب، ومعرفة مطالبهم وتوجهاتهم، وتمكنها من بناء أنظمة عميلة بامتياز تختارها الشعوب برضاها دون أن تدرك أنها عميلة.
باA273;ضافة إلى أن هذه الأراجوزات تعمل على ترويج وتحسين صورة أمريكا وإسرائيل، وتقديمهما على أنهما دول متحضرة تسعى لدعم الحريات، مشيرين للجوائز الدولية التي تمنحها المؤسسات والمنظمات الغربية للنشطاء الحقوقيين، وتمويلهم بأموال طائلة وفق مغريات تجعل معظم الشباب ينظرون للسلطات الغربية على أنها محل ديمقراطية وتقدم، في حين يرى آخرون أن تلك الإغراءات تكون في مضمونها غزواً فكرياً لطمس الهويات وثقافات البلدان اA271;صيلة.

دور المنظمات الدولية
فيما يبدو دور المنظمات والمؤسسات الدولية الحقوقية والإنسانية والصحف والمجلات الغربية، في استقطاب الشباب العربي وتوظيفهم لخدمة اA271;جندات التوسعية اA271;مريكية بشكل أو بآخر، فإن منحها جوائز دولية في اA273;علام والحقوق والحريات لشخصيات لم تقدم شيئاً بحساب اA271;دلة والشواهد، ينسف مصداقيتها، فمن السخافة أن تنظر تلك المنظمات لعلياء المهدي المراهقة المصرية التي خلعت ثيابها في الشارع العام، كبطلة أممية من مناضلي الحرية والكرامة، بينما لا تلتفت A269;لاف البطون المضربة عن الطعام في سبيل حريتها داخل السجون الإسرائيلية.
كما أن ثورة الشعب البحريني السلمية التي تدخل عامها السابع، لا تثير دعاة الرأي والتعبير، كما أنها لم تبادر بمنح قادتها أية جائزة في النضال والحريات، لسبب بسيط، وهو أن الثورات الحقيقية التي لها موقف صريح من التمدد الأمريكي الرأسمالي، ليست ثورة، وثوارها ليسوا إلا فوضويين وإرهابيين بحسابات الرأسمالية العالمية.

غياب الربيع عن الخليج
ما يجب الالتفات إليه أن معظم الشخصيات التي لمعتها الصحافة الغربية ظهرت في بلدان معارضة للسياسة اA271;مريكية، وبالتالي فإن هذا الأمر يعزز من قناعات الكثير الذين يؤكدون أنها صناعة أمريكية بحتة، حيث يشيرون إلى أن نجاة دول الخليج من أحداث الربيع العربي، وعدم انتقال شرارة الفوضى التي تتقفز من بلد إلى آخر في محيطها، مع أن أنظمتها تمارس أبشع أنواع القهر والاستبداد بحق شعوبها، يتعلق ببساطة لسبب وحيد، وهو أن أنظمة تلك الدول هي أنظمة مستحدثة أمريكياً وبريطانياً تعمل على الولاء المطلق لها.

صكوك الغفران
وبين هذا التناقض والنفاق العالميين وتلك الأيقونات المصنوعة في مطابخ الرجعية الاستعمارية ودواوين الامبريالية، فإن القادة الوطنيين لا تفرزهم الشاشات اA273;لكترونية، وإنما الرصيد النضالي القائم على التضحية، والبطولة ليست شهادة أكاديمية تصرفها صكوك الغفران الصهيوأمريكية.
ولا يعبر عن آلام الناس إلا من يشبههم ويشاركهم الوجع واA271;لم، ولا يمكن لشخص ينادي بمظلومية الشعوب من على أبراج الرأسمالية في إسطنبول ولندن وباريس، أن يقفز فوق أحلامها.