منظمات المجتمع المدني.. الشيطان في التفاصيل
- تم النشر بواسطة صحيفة لا / عبدالقادر حسين

«TEDX» تسلب الشباب أفكارهم و«NDI» يعلّم هادي الإيتكيت
منظمات المجتمع المدني.. الشيطان في التفاصيل
بشكل مفاجئ اتسع نطاق منظمات المجتمع المدني في جميع أنحاء العالم على مدى سنوات العقدين المنصرمين، مدعوماً بعملية العولمة واتساع نطاق نظم الحكم الديمقراطية، ووسائل الاتصال الحديثة، والاحتكارات الرأسمالية، وكما أن العولمة أحد أنماط السيطرة الاقتصادية على العالم، فهي وسيلة تحكم واستغلال إنساني واجتماعي وثقافي يصب في مصلحة الاحتكارات العالمية.
كالفطر تكاثرت منظمات المجتمع المدني لتصل خلال العام 2014 إلى زهاء 18 ألف منظمة، منها 25% تم تسجيلها عقب الانتفاضة الشبابية عام 2011، وفي تشرين أول من العام المنصرم أعلنت وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل انتهاء شرعية هيئات 21 منظمة، وتحظى بتمويل رسمي من الحكومة قوامه 400 مليون ريال تتلقاه تلك المنظمات عبر وزارة الشؤون الاجتماعية، فيما بلغ عدد المنظمات الدولية المانحة 14 منظمة باستثناء التابعة للأمم المتحدة والبنك الدولي.
وتعمل منظمات المجتمع المدني كجهات موازية للمؤسسات الحكومية، لاسيما مع اختلال الأخيرة وعدم قدرتها على تلبية الاحتياجات المجتمعية، الأمر الذي يعتبره البعض إيجابياً بحجة تغطية الإهمال والتسيب الحكومي، بيد أن سلبيتها تكمن في كونها كيانات عولمية تجتاز السيادة الوطنية إلى سقف المانح والممول العالمي.
ويرى باحثون أن هناك توجهاً عالمياً يدفع باتجاه تكثيف حضور المجتمع المدني كهيئات غير حكومية، لا تقتصر على المجال المحدود، بل تتعداه إلى أبعاد كونية وعالمية، تتصرف بميزانيات ضخمة تتعدى ميزانيات بعض القطاعات الحكومية.
بغياب الممول لا منظمات
وفقا لجدول أعمال سياسية محددة تعمل هذه المنظمات على تشكيل بيئة سياسية توافق المنظور الاستراتيجي والسياسي والاقتصادي للمانح والممول؛ وقد تجلت حقيقة تلك الهيئات بصورة أوضح في ظل العدوان السعودي الأمريكي على اليمن.
فبالرغم من توقف نشاط العديد من المنظمات بالتزامن مع مغادرة السفارات الغربية العاصمة صنعاء وإعلان البنك الدولي تعليق أعماله قبل بدء عمليات العدوان بأيام، إلا أنها عاودت نشاطها بالتدريج خلال الأشهر الأخيرة؛ إذ أطلت منظمة (مواطنة) لحقوق الإنسان بتقرير لها عن فترة العدوان تحت عنوان (غارات عمياء)، واستهل التقرير المتضمن إحصائية الضحايا التي رصدها بتبرير سياسي للتحالف، حيث يذكر التقرير أن العدوان بدأ بـ (إعلان المملكة العربية السعودية بدء عملية عسكرية على رأس تحالف عربي من عشر دول ضد قوات الرئيس السابق علي عبدالله صالح وجماعة الحوثيين - أنصار الله - التي سيطرت على السلطة بالقوة في 21 سبتمبر 2014م)، محاولاً بذلك مساواة الضحية بالجلاد، علاوة على اتخاذ موقف مناهض للثورة الشعبية بوصفها انقلاباً.
وأضاف أنه (منذ 26 مارس 2015، شنت مقاتلات التحالف العربي بقيادة السعودية آلاف الضربات الجوية على أهداف لقوات صالح والحوثي، غير أن عدداً كبيراً منها طال أهدافاً مدنية تسببت بقتل وجرح مئات المدنيين)، فيما ينافي ذلك جسم التقرير الذي يؤكد سقوط عدد من الضحايا المدنيين إثر قصف طائرات العدوان، بينما يبرز التمالؤ والانحياز للتحالف من العنوان الذي حمله التقرير (غارات عمياء)، إذ يعتبر الغارات التي استهدفت المدنيين استثناءً خرج بها على مسارها الذي ترى المنظمة فيه عدواناً مشروعاً على بلد وشعب هو عضو في الأمم المتحدة التي تُقر وثائقها بحرمة المساس بسيادته.
فيما أصدرت منظمة العفو الدولية تقريراً في 28 أيار من العام المنصرم حمل عنوان (مقتل وإصابة عشرات المدنيين جراء نيران المدافع المضادة للطائرات والقصف الجوي الذي استهدف مخازن الأسلحة)، وأورد التقرير (أن عشرات القتلى سقطوا في صنعاء جراء نيران المدافع المضادة للطائرات التي أطلقها عناصر ميليشيا الحوثي المسلحة)، بينما طالبت المنظمة في تقرير آخر بالتحقيق في الغارات الجوية. وذكر التقرير الذي صدر في 24 نيسان 2015م، أنه (ينبغي التحقيق في الضربات الجوية الوحشية على اليمن، والتي خلفت مئات القتلى من المدنيين).
يقول عبدالكريم غانم الباحث في علم الاجتماع: (إن مغادرة السفارات الغربية في فبراير 2015 عمل على تجفيف جزء كبير من التمويل الذي تعتمد عليه منظمات المجتمع المدني في اليمن، كما أن مغادرة السفارات أعطت مؤشراً سلبياً عن الأوضاع الأمنية، وأوحت بارتفاع درجة المخاطر الأمنية). موضحاً أن موقف السفارات مرتبط بمعلومات استخباراتية، ومغادرتها المفاجئة رفعت درجة الحذر لدى المنظمات واضطرها لإغلاق أبوابها وتجميد أنشطتها.
مصلحة الممول أم مصلحة المستهدف؟
ويرى غانم أن نوعية المشاريع التي تقدمها المنظمات ومدى ارتباطها بالمجتمع يحدد المستفيد من خدماتها، إذ يمكن أن تخدم الممول والمستهدف والقائمين عليها، وتخدم الدولة بأنها تُقدم فرص عمل لقطاع الشباب، فيما تخدم الممول بتحسين علاقته بالمجتمع المستهدف.
وتابع (إن الدول المانحة لها أهداف تسعى لتحقيقها من خلال تمويل مشاريع وأنشطة مؤسسات المجتمع المدني، وهذه الأهداف تصب في معظمها في خدمة المصالح المشتركة). إلا أن المصالح المشتركة المتوقعة بين الممول والوسيط والمستهدف لا يتحقق الشق المتعلق منها باليمن كبلد مصلحته تكمن مرحلياً في وقف العدوان وتجريمه، وهو أمر لا تنهض به المنظمات القائمة، عوضاً عن أنها تمنح هذا العدوان غطاء بادعاء الحياد، كل ذلك لا يدعم ما ذهب إليه غانم.
فيما يذهب آخرون خلافاً لـ (غانم) في التشكيك بطبيعة عمل منظمات المجتمع المدني والقول بأنها تزاول دوراً استخباراتياً مضراً بمصالح اليمن، حيث صار من الممكن لأي شخص تأسيس جمعية أو منظمة، ولا يلزمه سوى استخدام أشخاص يجيدون كتابة تقارير المشاريع، وتُرسل هذه التقارير إلى المنظمات المانحة فتتلقى المبادرة مبالغ مالية بمتوسط 50 ألف دولار، في ظل غياب الدور الرقابي الفعّال، وتعذر الشؤون الاجتماعية والعمل عن إلغاء أي منظمة، بحجة ضرورة توفر أمر قضائي يقضي بحلها، بينما المصروفات القضائية المخصصة للوزارة لا تتجاوز مائتي ألف، لتتكدس العديد منها في خانة الوهميات.
وكشفت معلومات خاصة أن الأمم المتحدة لا تتعامل سوى مع 53 منظمة من ضمنها (المنتدى الإنساني)، كما أن المانحين لا يقدمون الدعم إلا لمن يوفر لهم الخدمات الاستخباراتية والبحوث والدراسات التي تفيدهم في بناء سياساتهم الاستراتيجية وطبيعة علاقاتها مع اليمن، وتبيّن المعلومات أن حجم وفاعلية المنظمة ليس معياراً للحصول على دعم الهيئات المانحة.
حيث لا يحظى بالدعم والمساعدة إلا الذين يدورون في فلك المانحين عن طريق دراسات وأبحاث اجتماعية وسياسية يقدمها الناشطون والأكاديميون لدوائر الاستخبارات الأمريكية والغربية، وبواسطتهم أصدرت مؤسسة راند (RAND) الأمريكية تقريراً عن الحركة الحوثية في 2010، يتألف من 400 صفحة، يصف الخطر الذي تمثله الجماعة على المصالح الأمريكية، وكان مدير المؤسسة يهودياً قدم إلى اليمن ورافقه في زيارته البحثية أعضاء منخرطين في منظمات المجتمع المدني، بالإضافة إلى الدورات التي عُقدت لعدد من الوجوه الناشطة في الأردن، ولقاءاتهم مع الملحق العسكري الأمريكي، لبناني الجنسية، الذي كان يعقد عدداً من اللقاءات لمناقشة الوضع السياسي اليمني وتوضيح الاستراتيجية الأمريكية، لعدد من الصحفيين والنشطاء.
وتعتبر (مؤسسة راند) إحدى أهم المؤسسات الفكرية المؤثرة على صناعة القرار في الإدارة الأميركية الحالية، خاصة في ما يتعلق بمنطقة الشرق الأوسط، ولذلك تميل الإدارة الأميركية إلى تبنِّي مقترحاتها، ما يجعل لإصداراتها أهمية خاصة، وتبلغ ميزانيتها السنوية المخصصة لها رسمياً قرابة 150 مليون دولار، ويعمل في المؤسسة زهاء 1600 باحث وموظف يحمل غالبهم شهادات أكاديمية.
(استجابة) مشروع أدار مؤتمر الحوار
وبحسب المعلومات التي تحصلت عليها صحيفة (لا) فإن مشروع استجابة (RGP) الممول من الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية والمنفذ من قبل منظمة الشراكة الدولية، كان يقوم باستقطاب وتأهيل الشباب والناشطين السياسيين، بمن فيهم قيادات الأحزاب السياسية، إذ كانوا يتلقون التدريب في المعهد الديمقراطي الأمريكي (NDI)، تحت إدارة خبيرة أمريكية تُدعى هيلين آرين، ومن خلفها يقف السفير وأجهزة المخابرات الأمريكية.
نشط هذا المشروع خلال المرحلة الانتقالية ومؤتمر الحوار الوطني، وكان وراء الدفع بأحمد عوض بن مبارك إلى الأمانة العامة لمؤتمر الحوار، وعدد من أبناء المنظمات الذين جرى اختيارهم بدقة.
كما أن المعهد الديمقراطي ظل على مدى السنوات الفائتة مركزاً لتجميع وتجنيد عدد من الشباب والناشطين والصحفيين، غالبيتهم انتقلوا للإقامة ـ حالياً ـ في الرياض وفق ترتيبات مدروسة سبقت وزامنت شن العدوان على اليمن، وتفيد المعلومات بأن المعهد كان يُقيم دورات خاصة للرئيس الفارّ عبدربه منصور هادي في فن الإيتكيت؛ لتعليمه كيفية التصرف وارتداء الملبس وإلقاء الخطابات والمشي.
إلى ذلك، فقد اعتادت المنظمات الغربية على تنفيذ أنشطة مبطنة بالشعارات الإنسانية، فيما تنضح أغوارها بالأجندة الغربية الهادفة إلى تمزيق وتشتيت المجتمعات ليتسنى لحكوماتها بسط نفوذها على الأقليات المتشظية كنتيجة لسياساتها واستغلال الثروات، في ذات السياق قامت منظمة (ديا) الفرنسية؛ بتشييد مدينة الأمل في محافظة تعز كمأوى للمهمشين، في إطار سعيها (لنبذ التفرقة العنصرية وإزالة الدونية المجتمعية عن المهمشين) بحسب الأهداف المعلنة والتي عنونتها بـ(الدمج الاجتماعي)، بينما يعد ذلك المشروع تكريساً للعزل المجتمعي وتأطيراً لفئة المهمشين في مدينة صغيرة تعيق اختلاطهم بغيرهم من الفئات الاجتماعية، وتعتبر (ديا) منظمة فرنسية تنشط حصرياً في محافظة تعز، وعلى شريحة (الأخدام) المهمشين بوصفهم (الأشد فقراً).
(تيدكس) هي الأخرى سلسلة من المؤتمرات العالمية ترعاها (مؤسسة سابلنج الأمريكية) شعارها (أفكار تستحق الانتشار)، تركز نشاطها في الوطن العربي؛ وتقوم بتطويع شباب وتنظيم مؤتمرات لجمع الأفكار الإبداعية التي لم تحظَ بالرعاية من الحكومات العربية، مستغلة حالة التسيب الإبداعي لدى العرب، وتستفيد من الأفكار والبحوث التي تُقدم لها عن طريق المؤتمرات.
حيث تقوم (تيدكس) بجمع الأفكار الإبداعية والخبرات الناجحة من شتى البلدان العربية، لتعرض ـ بعد المفاضلة ـ أبرزها في المعرض السنوي الذي يُقام في الولايات المتحدة، وترصد للفائز (جوائز عينية ضخمة)، وتعد برعاية المبدعين من قبل أصحاب القرار ورؤوس الأموال، وفق لغة الترويج التي تقدم بها المنظمة نفسها لاستقطاب الشباب وتصيد نتاجاتهم الخام.
إلى ذلك، يرى أكاديميون أن الكثير من المغموطين يجدون في (تيدكس) فرصة للنهوض وإبراز أفكارهم على المستوى العالمي، دون علمهم أنها تستغل غياب قانون حماية الأفكار في الوطن العربي، وتسلب أفكارهم، ولا معلومات مؤكدة حول أن أحداً ممن أسهم بأفكار فذة قد حظي بالنعيم الذي تُبشر به المنظمة، على الأقل في اليمن.
الإخوان واليسار والقوميون على طاولة واحدة
تتسم المنظمات المدنية بـ (الاستقلال والطوعية) حد وصفها لنفسها، بيد أن الاستقلال قيمة مثالية لا يتسع لها الواقع، خصوصاً مع تفشي ظاهرة الانتهازية إزاء قضايا إنسانية وتطويعها لخدمة جهات سياسية معينة، حيث قامت بعض الأحزاب بإنشاء منظمات (إنسانية) لتجييرها لمصالحها السياسية، ونال حزب الإصلاح نصيب الأسد من هذه المنظمات، فيما يعد (المرصد اليمني لحقوق الإنسان)، وقبله (مركز التأهيل والتدريب) أبرز تجليات استقطاب اليسار إلى هذا المضمار، ويؤكد ذلك التحاق رئيسي المركزين الآنفين (المخلافي والأصبحي) بمعسكر العدوان على اليمن، وضلوع هذه المنظمات في الترتيبات الممهدة للعدوان ولا وطنية الدور الذي تزاوله.
ومثلما تخندقت الأحزاب اليسارية والقومية إلى جوار الإخوان في موقفها المؤيد للعدوان، انعكس ذلك الاتحاد على المنظمات المدنية والحقوقية، إذ يبدو الموقع الإلكتروني (للمرصد اليمني لحقوق الإنسان) كأنه يعيش في بلد مستتب لا حصار عليه ولا عدوان، مستثنياً ذلك بعمل إغاثي في حزيران من العام المنصرم، حيث زعم أنه قام بتوزيع مستلزمات إيواء لعدد 45 فرداً من المتضررين من قصف (المليشيات) في عدن ولحج، حد وصفه، وعلى خلاف بقية المنظمات التي تدعي الاستقلالية وتساوي الضحية بالجلاد، يُظهر المرصد انحيازه بوضوح لصف العدوان، وإغفاله الوضع الإنساني لليمنيين جراء العدوان.
وسبق لرئيسه محمد المخلافي الأمين العام المساعد للحزب الاشتراكي، أن طالب الرئيس الأمريكي في القمة الأمريكية - الخليجية بدعم استمرار عمليات تحالف العدوان على الشعب اليمني.
على ذات السياق، تقوم نفس الوجوه المنظماتية باستخدام شعارات براقة تغازل حاجة المواطنين البسطاء خلال فترة العدوان الذي طال أمده، محاولين بذلك معاودة استئناف النشاط الاستخباراتي ليحقق ما لم تحققه قوة العدوان العسكرية، حيث بدأت بعض الدعوات التي يتبناها ناشطون تطفو على السطح؛ في عمل مدروس لمواجهة صمود الشعب اليمني الذي لم ينكسر، وتلافي تحرر اليمن من ربقة الاحتلال الجديد.
إزاء ذلك فقد صار لزاماً على الجهات والأجهزة المعنية، أن تضع أجهزة المخابرات المبطنة تحت النظر والمراقبة، خصوصاً في ظل استئناف أعمالها، بعد اتضاح ارتباطها مع الخارج.
المصدر صحيفة لا / عبدالقادر حسين