من المحرر.. إيضاح لا بد منه
يكشف ديفيد فينكل في مقالة طويلة (ننشرها على حلقتين) كيف زاول الرئيس الأسبق علي عبدالله صالح لعبة تبديد وقت في علاقته بالإدارة الأمريكية على مستوى عديد أجندات أرادت واشنطن تمريرها في اليمن تحت مسميات حقوقية وأمنية.. إلخ.
المقالة المنشورة في (الواشنطن بوست)، في العام 2005م، تجتهد في تسويق الولايات المتحدة كمنقذ لليمن واليمنيين، وتقدم (علي صالح) باعتباره عائقاً أمام (مشروع الإنقاذ الأمريكي المزعوم).. تحتوي المقالة على الكثير من المغالطات والدس، لكنها لا تخفي سخط الإدارة الأمريكية المبكر على (صالح). أما حسن النوايا الأمريكية التي يظهرها الكاتب حيال اليمن، فمن السهل على القارئ اكتشاف زيفها والتحوط منها، مدعماً بوفرة معطيات حاضر العدوان الأمريكي السعودي المباشر على بلادنا، وانفضاح سوء نوايا واشنطن عملياً على أرض الواقع.
مقترح المشروع
ينص المشروع البالغة تكلفته 743,002 دولاراً، على أن يشكل المعهد الديمقراطي الوطني منظمة تتألف من المجلس التنفيذي والمدراء، واللوائح، ومدونة السلوك، ولجان أخرى مختلفة من رجال القبائل من مأرب والجوف وشبوة. حيث سيعمل المعهد الوطني الديمقراطي على مساعدتهم في افتتاح المكاتب وحفظ السجلات، ويدربهم على حل النزاعات. وسيعمل كذلك على مساعدتهم في التفاوض للوصول إلى اتفاقيات تهدئة وهدنة في ما بينها، وإنشاء مناطق خالية من إطلاق النار حول العيادات الطبية والمدارس وتنظيم ندوات في إنهاء الصراع، حتى يكونوا قادرين على الحصول على التمويلات والمنح المقدمة عند انتهاء برنامج المعهد الوطني الديمقراطي، ومواصلة مشوارهم والاعتماد على أنفسهم.
تعترف مدريد بأن مقترح المشروع هذا (ربما كان طموحاً بشكل زائد)، لكن ما حدث بين الأول من أكتوبر 2004، والـ15 من يونيو 2005، هو أن بيروقراطيتي بلدين تولتا زمام الأمور، أما المقترح فقد تمت مراجعته وتهذيبه وكتابته. وما حدث بعد ذلك هو أن المشائخ لم يكونوا بؤرة التركيز، وتم تقسيم المبالغ المالية بالنصف، وتأجيل المشروع، واختفى كل شيء له صلة بتعزيز الديمقراطية كتلك الكلمات الرنانة التي تحدث بها الرئيس بوش أثناء احتفال تنصيبه، ولا شيء تحقق سوى تحويل الديمقراطية الى سلعة مناسبة للترويج والتصدير.
في تلك الأثناء، كان على سفارة الولايات المتحدة أن تغلق أبوابها ليومين بسبب التهديدات الأمنية وتحركات تنظيم القاعدة، حيث أعلنت الحكومة اليمنية أن هناك تعاليم إسلامية متطرفة يتم تدريسها لعدد 330,000 طفل في 4000 مدرسة بشكل سري، وكانت هناك مشكلات تتعلق بمقترح المشروع أيضاً.
وفي ديسمبر أرسلت بعثة الوكالة الأمريكية للإنماء الدولي ـ وهي بالأصل كانت قد صادقت على برنامج المعهد الوطني الديمقراطي ـ بريداً إلكترونياً تتحدث فيه عن (حساسية المشروع)، ولذلك يجب عليه التنسيق بشكل تام مع سفارة الولايات المتحدة والوكالة الأمريكية للإنماء الدولي، حتى يكون بمقدورها إدارة المخاطر المحتملة التي قد تطرأ عن البرنامج. وتتضمن هذه المخاطر (التوتر المتزايد بين الجماعات القبلية والحكومة، واحتمال توتر العلاقات بين الحكومة اليمنية والولايات المتحدة).. الأمر الذي لم تتطرق له الرسالة، وأصبح واضحاً بجلاء، هو أن شكوك الرئيس علي عبدالله صالح زادت حول هذا البرنامج.. حيث يمثل تعدد الخلافات والصراعات إحدى الطرق التي جعلته يستمر في السلطة منذ 1978، وعدم توحد القبائل وإبقائها متفرقة، وأي برنامج سيوحد المشائخ من عشرات القبائل المختلفة من 3 محافظات، والذين يتبعهم ما يقارب 25,000 رجل مسلح بالمدفعية الثقيلة والقنابل والبنادق (سيكون بالتأكيد خطراً محتملاً)، فهل سيؤثر برنامج مثل هذا على تعاون الرئيس صالح في مكافحة الإرهاب إذا حقق تقدماً للأمام؟
لقد كان ذلك يزيد من مخاوف سفارة الولايات المتحدة، الأمر الذي جعل روبن مدريد قلقة أيضاً حول مسألة الإصرار على التنسيق المحكم مع السفارة. وكتبت لإدارتها العليا في واشنطن: (سيكون الأمر كارثياً بالنسبة لعملنا في اليمن إذا فهموا على أننا إحدى أذرع السفارة).
وأتى الرد عليها: (أقترح وبشدة وقف البرنامج في ظل هذه الظروف).
وهو ما كادت أن تفعله مدريد، ولكن كان هناك محادثة نهائية نتج عنها حل وسط، وهو عبارة عن تنفيذ برنامج لمدة 6 أشهر، بتكلفة 300,000 دولار، لبحث الصراعات القبلية بدلاً عن توحيد المشائخ وإنهاء هذه الصراعات.
لقد كانت الوكالة الأمريكية للإنماء الدولي سعيدة بهذا، ولكن مدريد لم تكن كذلك، ولكنها جارت الأمر باتخاذها قراراً يقضي باستخدام جزء من المبلغ المخصص للمشروع لاستمرار العمل مع المشائخ على أية حال، أي الشيء نفسه الذي كانت تقوم بعمله في 15 يونيو عندما ابتدأ البرنامج رسمياً.
وقالت للمشائخ الـ14 الحاضرين في أول اجتماع لمنظمة اليمن للتنمية والسلم الاجتماعي: (دعوني أهنئكم)، وتلى ذلك الابتسامات والتصفيق، وبدأت الأشياء تتداعى من هذه اللحظة، وبعد 5 أيام، همس علي شاهين في أذن مدريد (وهو أحد المدربين في حل النزاعات): (إن أحدهم يحمل البندقية).
كانوا ينظرون إلى 25 شيخاً ممن يمثلون العضوية كاملة لمنظمة اليمن للتنمية والسلم الاجتماعي، الذين شقوا رحلتهم عبر سلاسل جبلية ورملية طويلة حتى وصلوا إلى مدينة المكلا الساحلية، لحضور ورشة عمل لـ3 أيام، والتي يمكن الحكم عليها من جدول أعمالها بأنها مثل نظيرتها التي قد تحدث في عطلة نهاية الأسبوع في إحدى حانات الولايات المتحدة.
كانت هذه أول خطوة لتعليم هؤلاء الرجال الكيفية التي يجعلون من خلالها منظمتهم منظمة غير حكومية شرعية وقادرة على الاستدامة، حيث سيمضي بهم شاهين بجلسات تدريب مثل (تدريب الفريق الفعال)، و(الهيكل التنظيمي لمنظمة المجتمع المدني).
همست مدريد لطمأنة شاهين: (الكثير منهم يحمل السلاح)، (إنها فقط جزء من الزينة التي يلبسونها).. ولكنها كانت في الحقيقة تتساءل عنهم أيضاً، فهي تعرف القليل منهم فقط، ولكن النصف كانت تلك المرة الأولى التي تراهم فيها، وحدثت الكثير من الأشياء خلال الـ25 يوماً الماضية، كل ذلك لم يجعلها تشك، فقد كانت على الأقل قلقة.
والأسوأ من ذلك كان عندما سمعت أحد الأشخاص يتكلم في سفارة الولايات المتحدة، ووصف برنامجها بأنه يسعى في (البحث عن الأماكن التي يختبئ بها الإرهابيون)، وقالت وهي ترتعش من الخوف، وكانت غاضبة جداً: (إذا كان الناس يتحدثون بهذه الطريقة، فإن ذلك سيؤدي إلى قتلنا جميعاً)، وأردفت قائلة: (إن ذلك يعرض موظفينا وجميع برامجنا للخطر، قد تحدث كارثة).
ولكنها كانت تتساءل عما إذا كان هؤلاء المشائخ سيدافعون عن أنفسهم من خلال الشعار الذي يفيد أنهم منظمة غير حكومية. ونظرت إلى أحد المشائخ وكان يرتدي بالإضافة إلى البندقية ساعة ثمينة جداً مرصعة بالذهب، والتي من المحتمل أن تصل قيمتها ما يساوي الراتب الشهري الذي تعطيه المملكة العربية السعودية للعديد من المشائخ الحاضرين. ولكن يبقى السؤال: هل سيعير القوانين واللوائح الداخلية للمنظمة اهتمامه؟
ماذا عن الشيخ الآخر الذي لا يعرف القراءة والكتابة، ولديه العديد من الزوجات، وإحداهن تزوجها عندما كانت في الـ11 من العمر؟ هل سيتعلم الأنظمة والطرق المحاسبية المناسبة؟
ماذا عن مفرح محمد مفرح بوحبيب، أحد مشائخ مأرب الذي عرفته روبن مدريد أفضل من بقية المشائخ، والذي كان في طليعة الذين قدموا إلى المعهد الوطني الديمقراطي؟
وبعد عدة أشهر بعد أن أصبح الشيخ مفرح رئيس المنظمة، أمضت معه مدريد ليالي عدة تتعرف من خلالها على أسلوب حياته. حيث ترعرع في قرية يعيش بها الناس في خيام مصنوعة من جلود الجمال، وكانت المدرسة التي درس بها عبارة عن بطانية فوق الرمال. سألته مدريد ذات مرة: (كم تبلغ من العمر؟)، بينما كان يبدو ظهره منحنياً وبشرة يديه تبدو شاحبة وعيناه مرهقتين، قال إن عمره 55 عاماً، عندها شعرت بموجة حزن عارمة. فهل بمقدوره الاستمرار في هذا البرنامج لمدة 6 أشهر.. لكن المشائخ كان لديهم أسئلة أيضاً حول مدريد.
في البداية، كل ما احتاجوا عمله هو تشكيل لجنة من نوع ما للاستمرار في بحث قضايا الثأر، وبعد 15 يوماً أثناء إقامة ورشة عمل لمدة 3 أيام على البحر العربي، لأن هذا ما أخبرهم أحد الأمريكيين للقيام بفعله.. قالت مدريد للبعض منهم يوماً ما: (هناك بعض متطلبات معينة يجب أن تلبوها)، وأوضحت أنه ليس هناك أية منظمة ستعطيهم المال حتى يؤسسوا أنفسهم كمنظمة مجتمع مدني، وبذلك أصبحوا منظمة غير حكومية رسمية. وفي إحدى المرات سألت: كم منكم سبق أن استخدم جداول البيانات (أكسل)؟، وشرحت الحاجة إلى حفظ السجلات.. ولذلك تعلموا برامج الكمبيوتر.
كنتيجة تنم عن اعتقاد وليس عن فهم، استجابوا لما قالت مدريد، ولكنهم كانوا يتساءلون عما إذا كانت ستتمسك بذلك في الأيام القادمة.
وسأل الشيخ مفرح مدريد ذات يوم، وكانت إجابتها: (الوعود رخيصة)، وهو ما أزعجه، ولذلك تساءلوا عما إذا كانت تدرك المخاطر التي يخوضونها. فهل كانت الحكومة ستعاقبهم؟ أو ستعتقلهم؟ وهل تفهم الضغط الذي بدأوا يتعرضون له؟ لأنه قبل أيام قليلة من اعتقالهم استدعى الرئيس علي عبد الله صالح 10 من المشائخ إلى دار الرئاسة، ليسألهم ما الذي يفعلونه مع العجوز، أي المرأة المسنة، يقصد روبن مدريد. ورحب بهم بسخرية قائلاً: (مرحباً بالأمريكيين)، كما يتذكر أحدهم، ورد عليه العديد من المشائخ: (احذر منهم). ويتذكر آخر قوله بعض كلمات سيئة. قال: (لا تثقوا بالأمريكيين. لن يعطوكم مساعدة، وإذا فعلوا ذلك لن يعطوكم أكثر من 100 دولار. إنهم كذابون)، وقال العديد من المشائخ إن هذه كانت المرة الأولى التي يتبعهم فيها عناصر أمنية عند المخرج، وتم إيقافهم عند نقاط تفتيش، الأمر الذي لم يحدث مطلقاً من قبل بسبب مكانتهم.
كل واحد يتساءل عن الجميع. هذا ما كان يحدث طيلة 25 يوماً من البرنامج. في هذه الأجواء ذهب شاهين إلى مقدمة قاعة صالة المؤتمرات، وقال للمشائخ: (كل واحد منكم ينظر إلى الآخر، فكروا جيداً. واسأل نفسك هل بإمكاني أن أعمل مع هؤلاء الأشخاص؟ هل لدينا الإرادة للعمل معاً؟)، وقال شاهين: (يجب أن نثق ببعضنا).. وبتلك الكلمات الافتتتاحية تم البدء في العمل طيلة 3 أيام.
لقد وضعوا ثقتهم في مهارات وتدريبات بناء الفريق. وتعلموا كيفية تحويل المشكلات إلى أهداف، وكيف تكون (شخصاً متأنياً وليس انفعالياً).. وعندما قال أحد المشائخ: (المعاناة أحضرتنا جميعاً إلى هنا)، هز الجميع رؤوسهم موافقة لقوله، وتم الخروج بجملة من المشاريع لتنفيذها، بما في ذلك بناء المدارس، وتأثيث العيادات الصحية الفارغة، وحل الصراعات القبلية في المحافظات الـ3 بطريقة لا تشمل دفع الدية. لقد وضعوا أسلحتهم جانباً، وأبقوا خناجرهم (جنابيهم) في أغمادها، وكانوا صريحين جداً عندما طلب منهم شاهين أن يكتبوا آمالهم وطموحاتهم الشخصية التي يريدون تحقيقها.. كتب أحدهم: (نريد أن يكمل أبناؤنا تعليمهم)، وكتب آخر: (الديمقراطية في كل أرجاء العالم العربي).
أما حول كتابة أهم اللحظات في حياتهم فقد كتبوا التالي: (المجيء الى هنا)، (تأسيس المنظمة غير الحكومية التابعة لنا).
وقال بعض المشائخ بارتياح عند نهاية التدريب: (شكراً لك دكتورة روبن). وبعد ذلك تغمرهم مشاعر التفاؤل، وينطلقون في رحلتهم عبر بلد متذبذب، حيث من الممكن أن يتغير كل شيء في غضون يوم واحد.
وبعد 6 أيام من الرحلة والتدريب، اجتمع العديد من المشائخ في مقر المعهد الوطني الديمقراطي بصنعاء، لمناقشة خطاب ألقاه الرئيس صالح عشية الاجتماع، والذي قال فيه إنه لن يعيد ترشيح نفسه في انتخابات عام 2006. وبعد ذلك تحدث عن الحاجة إلى الديمقراطية في اليمن، وكذلك حول البلدان التي أصبحت صديقة لليمن الآن، وحول إحدى المنظمات التابعة لأحد البلدان التي بدأت للعمل مع المشائخ لحل مشكلة الثأر. وقال بعد ذلك ربما بشكل ساخر أو مستهزئ: (يحلون مشكلة الثأر في اليمن التي يعاني منها 20 مليوناً بـ300 ألف دولار). وأضاف متسائلاً: لماذا تعمل هذه المنظمة مع بعض المشائخ بدلاً من العمل مع قنوات مخصصة في الحكومة؟ لا نريد أي أحد أن يتدخل في شؤون بلدنا الداخلية.
وبعد يوم ممطر وشمس، يكاد يسمع صراخ الأطفال في المدارس خلف الجدران في إحدى المدارس التي تمت تسميتها باسم أحد الأطفال الفلسطينيين استشهد برصاص الجنود الإسرائيليين، بينما خلف النوافذ المفتوحة في المعهد الوطني الديمقراطي المضادة للقنابل، تظهر امرأة تبدو عليها مشاعر القلق، كانت تقول للمشائخ: (أنا بالفعل أساند وأدعم هذا العمل).
كان يبدو قلقها واضحاً إلى حد كبير مما أجبر أحد المشائخ على قول شيء ما لتشجيعها، وكان اسمه الشيخ ربيع العكيمي من الجوف، بينما كان يحاول القيام بوساطة بين قبيلته وقبيلة أخرى، وهو الذي تعرض في ما بعد لكمين مسلح.
الآن، وبالرغم من أنه اليوم الـ33 من عمر البرنامج الممتد لـ6 أشهر، قال الشيخ العكيمي للأمريكي الوحيد الذي يعرفه: (نحن فخورون جداً بكم)، أغمضت مدريد عينيها، وكانت متفاجئة جداً، وقال: (سنواصل ذلك).

ديفيد فينكل @ : صحيفة (الواشنطن بوست) الأمريكية
@ تم نشر هذا المقال في صحيفة (الواشنطن بوست) الأمريكية يوم الأحد تاريخ 18 ديسمبر 2005.