يراد لنا أن نفقد البوصلة في عالم تحكمه الفئوية وشريعة الغاب
المخيم صقل شخصيتي الفنية والإنسانية برمزيته المهيبة

حاوره/ نشوان دماج - مرافىء -
الفنان التشكيلي الفلسطيني وائل ربيع يعتمد على التجربة بتطوير قدراته الفنية، يلتزم المدرسة الواقعية، لأن الفن في المجتمعات التي تعاني من ظلم واضطهاد واحتلال ضرورة ملحة وليس ترفاً. 
ولد في 1970 بمخيم الأمعري للاجئين الفلسطينيين في الضفة الغربية. تعود جذوره إلى بلدة «لِفتا» من قرى القدس، والتي أزالها الاحتلال عن الأرض عام النكبة.
مرافئ «لا» التقى الفنان وائل ربيع متحدثاً عن تجربته في الفن التشكيلي وارتباطها المصيري بقضية الوطن والأرض في فلسطين المحتلة فإلى الحوار:

القدس «المدينة المسحورة»
 لنبدأ حوارنا معك من لوحتك «المدينة المسحورة» التي تم ترشيحك من خلالها لمسابقة أفضل فنان تشكيلي عربي في العالم للعام 2019.. حدثنا عن تلك اللوحة وعن حيثيات المسابقة؟
بداية، لا يسعني إلا أن أرحب بكم أجمل ترحيب، شاكرا لكم هذه الفرصة الطيبة التي أتحتم لي من خلالها أن أحل ضيفا على صحيفتكم الموقرة وعلى متابعيكم الكرام، متمنيا لكم التوفيق والنجاح.
بالنسبة لسؤالك حول لوحة «المدينة المسحورة»، فإنني استوحيت هذا العمل الفني من «بحيرة البجع»، وهي إحدى روائع التراث الموسيقي العالمي للموسيقار الروسي تشايكوفسكي، والتي عرضت في 1887. حيث سعيت من خلال هذا العمل الفني إلى لفت الأنظار إلى «مدينة القدس المحتلة» وما يعتريها من عذابات قاتمة نتيجة الاحتلال، وكذلك فإني أردت توجيه رسالة إلى العالم الغربي تحديدا، ساعيا ما استطعت إلى أن أكسر من خلالها تلك الصورة النمطية لديهم (بأن الإنسان العربي عموما هو إنسان «محدود الثقافة والإدراك»)، فكانت الطفلة «القارئة» المعتمرة للكوفية الفلسطينية برمزيتها الواضحة تحمل تلك الرواية بين يديها وتنظر في الأفق نحو القدس، في مشهد تخيلي يحاكي المشهد الأخير في الرواية بزوال السحر وانقشاع الظلام وعودة الأميرة «القدس» إلى سابق زهوها وجمالها. 
أما بالنسبة لموضوع ما آلت إليه المسابقة، فإنني كنت قد استلمت إشعارا من الجهة المنظمة بأنه قد تم اختيار لوحتي ضمن القائمة المختصرة (الخمسة الأوائل) في المنافسة، غير أنه وللأسف فإن انتشار هذا الوباء العالمي وما تبعه من إغلاقات وتوقف حركة المطارات في العديد من دول العالم، قد حال دون استكمال هذه المسابقة لذلك العام.

الفن والإبداع كضرورة
 إلى أي مدى استطاع الفن التشكيلي الفلسطيني عكس قضايا شعبه ووطنه المحتل؟ 
قالوا «الفنان ابن بيئته»، وأنا أؤمن جدا بهذه المقولة. صحيح أن الفن هو لغة عالمية لا تنعدم منها أغلب المجتمعات بما فيها المجتمعات المخملية، غير أنني أرى أن المجتمعات التي تتعرض للظلم بكافة أوجهه وأشكاله تتجلى فيها الحاجة إلى الفنون على نطاق أهم وأوسع، وذلك انطلاقا من مبدأ أهمية وجود الفن والإبداع كضرورة لعكس معاناة هذه المجتمعات وإبراز قضاياها العادلة في كافة المحافل سعيا منها لتكريس كافة الوسائل التي تؤدي إلى تحقيق أهدافها الإنسانية العادلة.
وفي السياق نفسه، فإني أرى أن الفن التشكيلي يعدّ من أهم روافد «التأريخ بكل جوانبه الحضارية والإنسانية»، فنجد أن الفن التشكيلي الفلسطيني قد لعب دورا هاما في هذا المجال، حيث يوجد العديد من الأعمال الفنية التي تؤرخ الحقب الزمنية المتعاقبة على فلسطين وعلى شعبها وما رافق تلك الحقب من مظاهر وطنية وحضارية وتراثية. كما أننا كفنانين كنا ومازلنا نجد في الفن الملتزم نافذة لنا نطل من خلالها على واقعنا الصعب والشائك، فتبقى قضيتنا العادلة متقدة بداخلنا ولا تنصهر في ملاهي الحياة.

صمود رغم العذابات والجراح
 وقع الاحتلال وحالة الاغتراب التي يعيشها الإنسان الفلسطيني داخل وطنه المتقطعة أوصاله والقابع داخل أسوار إسمنتية وحواجز وأسلاك شائكة.. كيف لها أن تنعكس على نفسية الفنان؟
الفنان الفلسطيني هو مثل باقي أبناء شعبه في كافة أماكن تواجده، فهو يعاني ما يعانونه من ذلك القدر الكبير من (الحواجز والمحرمات والمعوقات...)، والتي تنعكس على نفسيته باتجاهين متضاربين متصارعين: الأول، يحمل في طياته المعاناة والقهر نتيجة الحد من حريته وعدم اكتمال مواطنته المنشودة واستقراره النفسي والاجتماعي والمادي مثل سائر شعوب العالم المتحرر، والثاني، يحمل التحدي وروح العزيمة والثبات والصمود كونه إنسانا أخذ على عاتقه حمل رسالة وطنية سامية تهدف إلى التحرر الوطني والانعتاق من براثن الاحتلال، إلا أننا والحمد الله مازلنا نجد أن الفنان الفلسطيني يغلب لديه الاتجاه الثاني الذي يسمو بحمله على كل العذابات والجراح.

ترياق حب الوطن
 هل استطاعت كل تلك الممارسات التغريبية من قبل الاحتلال أن تؤثر في هوية الإنسان الفلسطيني وانتمائه إلى أرضه ووطنه؟
لقد سعى الاحتلال جاهدا إلى التأثير على الهوية الفلسطينية سلبا وفي كثير من مجالات الحياة (الثقافية منها والتراثية والتاريخية والدينية وغيرها)، وكذلك على كافة المحافل المحلية والدولية، إلا أننا نجد أن ذلك الإنسان الفلسطيني الصامد والمرابط كان دوما حريصا على أن يستجلب في ذهنه وقلبه ترياق حب الوطن والصمود ليقضي به على كافة أنواع السموم التي ينفثها الاحتلال في طريقه نحو التحرر والانعتاق.

«حنظلة» حضور دائم
  شخصية حنظلة إذا كانت بمثابة البوصلة بالنسبة للفنان الكبير ناجي العلي.. فما الذي تمثله بالنسبة لباقي الفنانين الفلسطينيين؟ 
إن شخصية «حنظلة» التي قدمها فناننا الراحل ناجي العلي، قد حملت ومازالت تحمل رمزية عالية لذلك الطفل الفلسطيني المشتت والمستهدف من جهات قد تتجاوز الجهات الأربع أحيانا، وإنني أعتقد أن هذه الرمزية لا تغيب عن ذهن أي فنان تشكيلي فلسطيني كونه في تماس مباشر معها، فالفنان والطفل الفلسطينيان كلاهما يتقاسمان الأوجاع بآلامها التي يتخللها الشيء اليسير من الابتسامات بآمالها.
  ما العنوان الرئيس الذي يمكن لأعمال الفنان وائل ربيع أن تمثله؟
بكل بساطة ومباشرة: «الوطن» بكل ما فيه.

واقعية تعبيرية
  وضوح الرمزية إلى درجة كبيرة في لوحاتك، بحسب العديدين، واعتمادك على الواقعية.. هل لأن الواقعية هي التعبير الأمثل عن واقع لا يحتمل أي إيغال في الرمزية؟ أم ماذا؟
صحيح ما تفضلتم به، فمع تعدد مدارس فن الرسم واختلاف مناهجها وأدواتها، وبالتالي الاختلاف النسبي لروادها وعشاقها، إلا أنني قد آثرت اعتماد المدرسة «الواقعية التعبيرية» في إنتاجي الفني، وذلك لأنني أجدها تتصف بشمولية أوسع بين جمهور المشاهدين والمتذوقين، وكذلك تحظى بسهولة أكبر في التعبير والتلقي على حد سواء.

إخراج الصور بتصرف
  الفوتوغراف وأثره على الفن التشكيلي.. هناك من يقول إن كثيرا من التشكيليين كادوا يصبحون «عالة» على الفوتوغراف؛ كيف ترون الأمر من وجهة نظركم؟
الفوتوغراف يعتبر أداة من أدوات نقل الصورة المشاهدة المحضة الخالية من أي تصرف كما هي أساسا العين البشرية، غير أن فن التشكيل ينتهج خلق الفكرة وعكس الرؤى لتحمل رسالة يقدمها الفنان إلى جمهور النظارة، لذلك فمن وجهة نظري المتواضعة إنه لا يضير الفنان أن يستند إلى الفوتوغراف في نقل تلك الصور ليخرجها بتصرف وفقا لمرتكزاته الفنية، وقد رأينا أن هذه الطريقة قد اعتمدت لدى العديد من كبار الفنانين في العالم.

التعليم الأكاديمي يجوّد الفن
  عدم دراسة الفن أكاديميا والاعتماد على الموهبة فقط، هل يمكن أن يؤثر ذلك على الرسام في النظر إلى لوحاته؟
بالتأكيد إن التعليم الأكاديمي يعتبر غاية في الأهمية، وهو بدوره يكمّل مفرزات الموهبة الفطرية، وإن العمل الفني الذي يرتكز على المبادئ العلمية يكون بالضرورة أكثر جودة شكلا ومضمونا من العمل المبني على الموهبة الفطرية فقط، وهنا فإن الفنان يجب ألا يتوقف عن التعلّم (ولو بالتعلم الذاتي من خلال وسائل التعلم المتاحة) بما يوسع الآفاق التقنية والإبداعية لديه، وذلك رغما عن «محدودية النظرة الاعتبارية» في مجتمعاتنا للفنون عموما، والتي من الضرورة بمكان العمل على تغييرها نحو تحقيق مزيد من النهوض الفني والثقافي والحضاري.

مجتمعات أكثر حاجة للفن
  من أية زاوية تنظرون إلى حاجة المجتمعات المضطهدة إلى الفن؟ وهل للفن أن يكون محايدا هنا؟ أو هل لنظرية الفن للفن أن تكون صالحة مع قضية بحجم قضية الشعب الفلسطيني؟
بالنسبة للشق الأول من السؤال، نعم صحيح.. فإن المجتمعات المضطهدة، ومن وجهة نظري، هي أكثر من غيرها بحاجة إلى كل ما يرفد الحالة الثقافية لديها عموما (بما فيها فن الرسم)، بما يعزز الوعي الفكري للفرد في تلك المجتمعات، أما في ما يتعلق بحيادية الفن أو «الفن من أجل الفن فقط»، فإني أرى أن هذا الاتجاه يتناسب مع المجتمعات الأكثر استقرارا ورفاهية من غيرها، وهي قليلة في هذا العالم، لذلك فإننا نرى أن قضية بحجم القضية الفلسطينية قد تكون أبعد ما يمكن عن هذا الاتجاه للاعتبارات المعروفة لدى الجميع.

- حق العودة.. المقاومة.. الصمود.. هل هي مجرد مفاهيم بالنسبة للإنسان الفلسطيني؟ أم هي قضايا مصيرية؟ 
بالتأكيد هي قضايا مصيرية، فالأمر قد حكم أساسا بأن نكون أو لا نكون.

حضور قوي
- ما الذي تعنيه قرية لفتا بالنسبة للفنان وائل ربيع؟
لفتا هي قريتي المهجرة عام 1948، وهي من قرى قضاء القدس، حيث تمتد أراضيها لتحد أسوار القدس العتيقة. صحيح أنني لم أسكن فيها بحكم التهجير، إلا أنها تسكنني وتتربع في قلبي ما حييت، وإنك ستجدها حاضرة في العديد من أعمالي الفنية، التي أسعى من خلالها إلى التعبير عن مدى حميمية تلك العلاقة التي تجمعني بقريتي الحبيبة.

- حدثنا عن طفولتك ومخيم الأمعري الذي ولدت فيه؟
مخيم الأمعري للاجئين الفلسطينيين أنشئ في 1949، يقع على بعد كيلومترين جنوب مدينة البيرة في وسط الضفة الغربية. يوجد في مخيم الأمعري 10,377 لاجئا مسجلا. ولدت في هذا المخيم وتربيت في أحد مساكنه المتواضعة، وتعلمت في مدارسه التابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين. نعم، فالمخيم برمزيته المهيبة يكاد يكون العنصر الأساس في صقل شخصيتي الإنسانية والفنية التي نمت وبنيت أساسا على اعتبارات الصمود وكفاح العيش أملا بالعودة.

بدأت على الجدار
- كيف كانت بداياتك مع الرسم؟ وهل هناك فنان نستطيع القول بأنك تأثرت به؟
بدايتي مع فن الرسم كانت منذ الطفولة المبكرة، حيث كنت أرسم على الجدران المحيطة بالمنزل، وقد كانت تلك الرسومات البسيطة تلقى إعجاب الجيران والأقارب حينها، واستمرت هذه الموهبة تصاحبني إلى أن شعرت بشيء من الاستقرار الاجتماعي، فجهدت على تنمية موهبتي من خلال التعلم الذاتي، إلى أن أصبح لدي محصول فني متواضع قدمته إلى المتلقين من خلال صفحتي الفنية على الشبكة العنكبوتية، وكذلك من خلال المعارض الفنية المحلية والعربية والدولية، وقد كان تشجيع المتابعين لأعمالي الفنية بمثابة الوقود الذي دفعني ويدفعني إلى الاستمرار في تقديم كل ما هو جديد ومميز، مع احتفاظي بشخصيتي الفنية المستقلة.
أما بالنسبة للسؤال حول الفنان الذي تأثرت به، نعم فقد تأثرت بالفنان الفلسطيني سليمان منصور (فنان تشكيلي ونحات فلسطيني معروف صاحب اللوحة الأشهر «جمل المحامل» والتي أصبحت أيقونة من أيقونات الشعب الفلسطيني)، حيث كان لذلك الأثر الكبير في تشكيل توجهي الفني لما حققه فنه الراقي الهادف والملتزم بالقضية الفلسطينية العادلة من نجاحات محلية ودولية.

-  اللوحات الأقرب أو الأكثر تعبيرا عن الفنان وائل ربيع؟
أعتبر أن لوحة «نداء الفجر» هي من أقرب اللوحات القريبة إلي، والتي عبرت فيها عن فكرة الصمود والرباط في مدينة القدس برمزيتها العالية، وخصوصا مع محاولة الاحتلال منع أذان مساجد القدس، لاسيما المسجد الأقصى المبارك.

سيزول الغمام الأسود
- وأنتم ترون حالة الهرولة من قبل عدد من الأنظمة العربية للتطبيع مع الكيان الصهيوني.. ما الذي يمكن أن يشكله ذلك من حالة ألم بالنسبة لك كفلسطيني أولا وكفنان ثانيا؟
إنني كإنسان فلسطيني مثل باقي الشعب الفلسطيني أحمل على كاهلي هموم القضية الفلسطينية، وأتطلع إلى تحقيق أحلامنا بالتحرر والانعتاق سعيا لإقامة دولتنا المستقلة لننعم بالعيش فيها مثل باقي شعوب العالم.. ونعمل جاهدين وبكل إمكاناتنا لمجابهة هذه الهجمة المنظمة على الكل الفلسطيني، والتي كان آخرها «صفقة القرن» البائسة، فإننا نجد أن إخوانا لنا قد آثروا أن يبنوا أمجادا «واهمة» لهم ولو على حساب إخوانهم في العروبة والدين، إنني آسف لذلك معتقدا بأن الحق في النهاية سيعلو ولا يعلى عليه، وأن هذا الغمام الأسود لا بد له من زوال.

- هل هناك محاولات لـ»مقاربة» حالات التطبيع تلك في عمل من أعمالك؟
نعم فقد رأيت من خلال لوحتي «وطني» التأكيد على أن فلسطين هي وطن خالص لشعبه، وأن هذا ليس مجرد شعار، بل هو حقيقة راسخة مثل الجبال الشم لا يحرك سكونها ريح ولا إعصار.

شكرا لليمن وشعبه الحر
- كيف تنظرون إلى تطبيع تلك الأنظمة مع العدو الإسرائيلي تزامنا مع عدوانها على اليمن؟ 
إن شعبنا الفلسطيني قد عانى ولايزال يعاني كافة أوجه الظلم والاضطهاد من هذا الاحتلال الغاشم، وإنه بالتأكيد ليؤلمه أن يتعرض أي شعب عربي شقيق، بل أي شعب في هذا العالم بأسره، لما يعانيه، وكذلك فإنني أعتقد أننا آخر ما نحتاجه في هذه المرحلة أن نفقد البوصلة، وأن يصار بنا إلى عالم تحكمه الفئوية وشريعة الغاب، إننا بالتأكيد نقف مع وحدة اليمن الشقيق ضد أية محاولات لتقسميه وبث الفرقة بين أبنائه، مثمنين لليمن ولشعبه الحر الأبي عاليا كافة مواقفه العروبية النبيلة تجاهنا وتجاه قضيتنا وقضية العرب الأولى، متمنيا أن يعجل الله الفرج على اليمن الشقيق ليظل بيرقا عاليا يخفق في سماء الحرية والازدهار.

- كلمة أخيرة؟
مع ختام هذا اللقاء فإنني أكرر شكري وامتناني لكم ولصحيفتكم المحترمة على هذه الفرصة الطيبة، مهديا لكم أجمل التحيات، ومتمنيا لكم وللشعب اليمني الشقيق أطيب الأمنيات.