إمبراطورية الخزانة الغارقة.. أمريكا تحكم العالم بسنداتٍ تتهاوى
- عبد الحافظ معجب الخميس , 3 يـولـيـو , 2025 الساعة 3:55:49 AM
- 0 تعليقات
عبدالحافظ معجب / لا ميديا -
يُروى عن الإمبراطور الروماني نيرون أنّه حين اشتعلت النيران في روما، أمسك قيثارته وأخذ يغني متأملاً المشهد، وكأنّ الدخان ليس دخان احتراق عاصمته، بل بخور انتصاراته المتوهمة. ولعلّ هذه القصة القديمة تصلح لتفسير حال الولايات المتحدة الأمريكية اليوم، الإمبراطورية التي تقرع طبول الحرب في أصقاع الأرض كافة، بينما خزانتها الداخلية تغلي كبركان مديونية يوشك أن يبتلع هيبة الدولار ذاته.
فوفقاً لتقرير حديث صادر عن وزارة الخزانة الأمريكية، بلغ الدين العام للولايات المتحدة 36.22 تريليون دولار أمريكي، مع حاجة عاجلة لإعادة تمويل ديون مستحقة بقيمة 11 تريليون دولار خلال الاثني عشر شهراً المقبلة.
هذه الأرقام الفلكية ليست مجرد عبء مالي، بل قيد ثقيل يحيط برقبة الاقتصاد الأمريكي، ويهدد مكانته العالمية من أساسها، لاسيما والعالم يعيش مخاض ولادة نظام عالمي متعدد الأقطاب.
إن مشهد دولة تُنَظِّر للعالم عن الديمقراطية والحرية والحوكمة الرشيدة، بينما اقتصادها قائم على القروض وسندات الخزانة، لا يخلو من المفارقة. فما قيمة الزعامة إذا كانت قائمة على مديونية تُهدد أساساتها؟ بل ما معنى السيادة حين تستند إلى دفاتر ديون تتقاذفها الأسواق؟
تشهد سندات الخزانة الأمريكية تقلبات حادة، واهتزازاً في ثقة المستثمرين العالميين. في الأسبوع الأخير فقط، انخفضت حيازات البنوك المركزية من هذه السندات بمقدار 17 مليار دولار، وبلغ إجمالي التراجع منذ مارس الماضي أكثر من 48 مليار دولار. والمفارقة الموجعة -والمثيرة للدهشة معاً- أنّ مزاد سندات الخزانة الأمريكية لأجل عشرين عاماً، بقيمة 16 مليار دولار وبعائد يبلغ 5٪، لم يحظ بالإقبال المنتظر، وكأن المستثمرين أداروا ظهورهم لأكثر الأوراق المالية شهرة في العالم، ليتحوّل صك الأمان إلى عبء ثقيل على سمعة واشنطن المالية.
ترافق ذلك مع تراجع مؤشر الدولار أمام سلة من العملات الرئيسية، في وقت يواصل فيه الدين الأمريكي ارتفاعه مقترباً من عتبة 37 تريليون دولار. ومع كل هذا، تجد الولايات المتحدة نفسها أمام ضرورة رفع أسعار الفائدة بشكل مستمر، ما يزيد من كلفة خدمة الدين ويضغط على استقرار أسواقها.
الغريب أن واشنطن، في خضم هذه الأزمات الداخلية، لاتزال تصدر «خطابات العظمة» وتمنح نفسها صلاحية التدخل في شؤون العالم أجمع. فهي تدعم الكيان الإسرائيلي مادياً وعسكرياً وتتعهد بضمان أمنه وازدهاره، بينما تعاني هي نفسها من عجز متفاقم، وتهالك في البنية التحتية، وانقسامات سياسية حادة تشل القرار الاقتصادي. هذه مفارقة تاريخية: كيف لدولة لا تستطيع ضمان بقاء نموذجها الاقتصادي، أن تضمن بقاء كيان آخر في بيئة مضطربة؟ وكيف لأمّة على حافة التخلف المالي أن تملي شروط البقاء على غيرها؟
في المقابل، تواصل واشنطن ممارسة ما يمكن تسميته بـ«الابتزاز الجيواقتصادي» على دول الخليج العربي، تحت لافتة الحماية والدفاع. فالثروات تُستنزف، وصفقات التسلح تُمرّر، والأنظمة تُشجَّع أو تُعاقب بحسب درجة الطاعة. لكن حين دقّ ناقوس الخطر في البحر الأحمر، بدت حاملات الطائرات الأمريكية عاجزة أمام هجمات من مقاتلين يمنيين بأسلحة غير تقليدية، دفعوا دونالد ترامب للاعتراف علناً بأنهم «أشداء لا يُستهان بهم». أمريكا التي لم تستطع أن تحمي حاملاتها، تُصرّ على أنها تحمي الخليج. ويا للمفارقة!
لا يمكن إنكار أن سندات الخزانة تُمثّل مصدراً مهما لتمويل العجز الحكومي الأمريكي، الذي يتزايد مع الإنفاق العسكري والرعائي. كما تلعب دوراً محورياً في ترسيخ مكانة الدولار كعملة احتياط عالمية، إذ تتطلب عملية شرائها تحويل العملات الأجنبية إلى الدولار، مما يدعم الطلب عليه ويُكرّس هيمنته.
ومع أنّ السوق الأمريكية تُعدّ من أضخم أسواق السندات في العالم، بقيمة تتجاوز 29 تريليون دولار، فإن جاذبيتها باتت مهددة. وقد رفعت السعودية في أبريل 2025 حيازتها من هذه السندات بمقدار 2.2 مليار دولار، لتصل إلى 133.8 مليارا، وهو رقم يُظهر توجّهاً للتهدئة لا للاعتماد.
العالم -على ما يبدو- بدأ يُراجع علاقته بالعملة الأمريكية. الصين، روسيا، ومجموعة من الاقتصادات الناشئة باتت تستكشف بدائل عملية، سواء عبر الذهب أو العملات المحلية أو الأصول الرقمية. كل ذلك يُنذر بتحول جيواقتصادي جذري.
في نهاية المطاف، تُطرح تساؤلات جوهرية: هل من الحصافة أن تحكم العالم دولة عاجزة عن دفع مستحقاتها؟ وكيف سيقبل العالم أن تقوده أمريكا التي عجزت عن قيادة موازنتها؟ وماذا سيقول التاريخ عن قوة عظمى سقطت بسبب أدوات الدين التي أغرتها وغرّرت بها العالم؟
ربما سيأتي يوم يُروى فيه عن واشنطن ما رُوي عن نيرون: «اشتعلت النيران في خزينتها، بينما كانت تعزف ألحان الهيمنة، مُدعية أنها حامية الحرية، ناسية أن الحرية الحقيقية تبدأ من القدرة على سداد الديون، لا فرض الشروط على الغير».
وفي انتظار ذلك اليوم، سنبقى نتابع -بمزيج من التسلية والدهشة- مسرحية اقتصادية عنوانها: قوةٌ مدينة تحكم عالماً مثقلاً بالأوهام.
المصدر عبد الحافظ معجب
زيارة جميع مقالات: عبد الحافظ معجب