منذر المقطري

منذر المقطري / لا ميديا -
نظم مركز الخليج للأبحاث، بالتعاون مع مركز «الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية» ومؤسسة «كونراد أديناور» الألمانية ورشة عمل بعنوان: «المصالح والإجراءات المشتركة في الأمن البحري: تأمين الممرات المائية حول شبه الجزيرة العربية»، لمدة يومين، في مقر مركز «الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية» بالرياض خلال الفترة 5 – 6 تشرين الثاني/ نوفمبر 2025.
جمعت الورشة خبراء في الأمن البحري من عدد من الجهات الحكومية السعودية والألمانية، إلى جانب ممثلين عن القطاع الخاص والمؤسسات البحثية، ويأتي ذلك في سياق الدعم الغربي الخليجي للمرتزقة كوكلاء محليين وتفويضهم للقيام بدور حرس المصالح الغربية الصهيونية الخليجية، تحت مسمى دعم «خفر السواحل اليمني» لحماية الملاحة الدولية.

الإطار العام للتحرك الألماني
منذ العام 2023 يشهد البحر الأحمر تصاعداً غير مسبوق في النشاط العسكري والاستخباراتي الغربي والخليجي (الإماراتي خصوصاً)، متخذاً من السواحل والجزر اليمنية المحتلة مركزاً محورياً لتحركاته. وقد مثّل مؤتمر الأمن البحري في الرياض (أيلول/ سبتمبر الماضي) نقطة انعطاف استراتيجية في هذا المسار؛ إذ جمعت فعالياته أكثر من أربعين دولة ومنظمة دولية تحت شعار «حماية الملاحة ومكافحة الإرهاب»، بينما كانت الأهداف الفعلية تدور حول إعادة إنتاج السيطرة الغربية على الممرات اليمنية وإدماجها في منظومة الهيمنة الإمبريالية الجديدة.
فخلف العناوين الإنسانية والقانونية، كانت تُبنى على الأرض بنية احتلال (إداري - استخباراتي) تمتد من عدن إلى جيبوتي، وتستند إلى أدوات متعددة المستويات تشمل: إنشاء مدارج وموانئ وقواعد في الجزر الحيوية مثل زُقَر وميون وسقطرى، تنشيط التعاون العسكري بين حكومة عدن العميلة وكلٍّ من الصومال وجيبوتي لتطويق العمق البحري اليمني، وتشغيل وحدات بحرية مرتبطة بقوات طارق صالح والمجلس الانتقالي كأذرع ميدانية للسيطرة الأطلسية.
هذه التحركات تُعبّر عن تحول نوعي في بنية السيطرة الغربية؛ إذ انتقلت من النموذج العسكري المباشر إلى نموذج الهيمنة (المؤسسية - اللوجستية) منخفضة الكلفة، الذي يدمج بين الوكلاء المحليين والإقليميين تحت إشراف استراتيجي غربي مباشر.
في المقابل، فرضت صنعاء منذ أواخر 2023 معادلة ردعٍ بحريٍّ فعّالة عبر عمليات استهداف السفن «الإسرائيلية»، الأمر الذي نقل اليمن من موقع المتلقّي للعدوان إلى فاعلٍ رئيسي في معادلة الردع الإقليمي، ورسّخ حضور صنعاء كقوة بحرية مستقلة تملك أدوات التأثير على معادلات الملاحة في البحر الأحمر وباب المندب وخليج عدن.

مضمون التحرك الألماني في هذا السياق
يأتي التحرك الألماني الأخير -في تشرين الثاني/ نوفمبر 2025- كجزء من هذا المسار الغربي المتكامل؛ فقد اتخذت برلين خطوات مزدوجة تجمع بين النشاط الدبلوماسي والسياسي من جهة، والنشاط البحثي والأمني البحري من جهة أخرى، بما يؤكد التحام المسارين الألماني والأطلسي في إطار واحد منسق.

التحرك الدبلوماسي:
• احتفال رسمي مزدوج نظمته السفارتان الألمانيتان في الرياض وعدن بمناسبة اليوم الوطني الألماني، بحضور ممثلي حكومة عدن، في خطوة تعكس اعترافاً سياسياً ضمنياً بهذه الحكومة بوصفها الممثل «الشرعي» لليمن.
• تصريحات شديدة اللهجة أدلى بها السفير الألماني لدى اليمن، توماس شنايدر، تضمنت إدانة علنية لصنعاء وربطاً مباشراً بين تصعيدها العسكري ومخاطر تقويض العمل الإنساني، مع استخدام المفردات القانونية ذاتها التي تستخدمها واشنطن ولندن («انتهاك صارخ للقانون الدولي»، «تهديد للمنظمات الدولية»)، ما يدل على تنسيق لغوي وسردي مع الخطاب الغربي المشترك.

التحرك (البحثي - الأمني):
• شاركت برلين بفاعلية في ورشة العمل حول الأمن البحري المذكورة سابقاً، والتي شهدت حضوراً رفيعاً من الجانب الألماني شمل السفيرين في الرياض وصنعاء، إضافة إلى مدير البرنامج الإقليمي لمؤسسة كونراد أديناور، ما يعبّر عن توحيد الدبلوماسية الألمانية والذراع البحثية الألمانية في خطاب واحد حول «أمن الممرات البحرية».
• وتركّزت النقاشات على ثلاثة محاور رئيسية: التهديدات في البحر الأحمر، الأمن البحري في الخليج العربي، وأهمية «بناء القدرات المشتركة» و»تعزيز الحوكمة البحرية»، وهي مفردات تُستخدم عادة لتبرير عسكرة البحر تحت غطاء التعاون الإقليمي.

التحول الدبلوماسي والأهداف البنيوية للتحرك الألماني
خلال السنوات السابقة، حافظت ألمانيا على تموضع وسطي ركّز على الجوانب الإنسانية ودعم جهود المبعوث الأممي؛ إلا أنّ ما جرى في تشرين الثاني/ نوفمبر 2025 يعكس تحولاً بنيوياً في السياسة الألمانية من الحياد النسبي إلى الاصطفاف الكامل مع محور (واشنطن - لندن - باريس).
ويبدو هذا التحول جزءاً من عملية إعادة تموضع ألماني داخل الإطار الأطلسي بعد الحرب الأوكرانية، سعياً لتأكيد الدور الألماني كفاعل أوروبي مركزي في ملفات البحر الأحمر والخليج.
ويمكن تلخيص الأهداف العميقة لهذا التحرك فيما يلي:
• تجريم صنعاء سياسياً وإنسانياً لتقويض الشرعية الواقعية التي اكتسبتها من خلال علاقاتها مع المنظمات الدولية، التي مازالت مقراتها في صنعاء.
• توسيع النفوذ البحري الألماني في البحر الأحمر والخليج، ضمن التواجد الأوروبي عبر مهمة «اسبيدس» البحرية.
• تهيئة مسار ضغط دبلوماسي ناعم يمهّد لتصعيد أممي لاحق ضد صنعاء، سواء عبر مجلس الأمن أو عبر أدوات التمويل الإنساني.

الاندماج الألماني في بنية الهيمنة البحرية الغربية
من خلال تتبع التسلسل الزمني، يمكن ملاحظة أنّ التحرك الألماني، سواء في «مؤتمر نابولي 2025» أو ورشة الرياض الأخيرة، جاء متزامناً مع مرحلة تثبيت البنية التحتية الغربية في الجزر اليمنية وتوسيع الشراكات الأمنية بين حكومة عدن والساحل الأفريقي.
وهذا التزامن يدل على نية ألمانية للانخراط في البنية العملياتية للمشروع الغربي، ليس من موقع القيادة بل من موقع «المكمّل التقني - القانوني»، عبر:
• إنتاج سردية (قانونية - بحثية) تمنح الوجود العسكري الغربي غطاء الشرعية الدولية.
• توحيد الساحة البحرية (الخليج والبحر الأحمر) ضمن مفهوم واحد للأمن الجماعي بقيادة (سعودية - غربية).
• تعزيز أطر التدريب والتمويل التي تخدم البنية البحرية لحكومة المرتزقة عدن، بما يرسّخ تبعيتها للمحور الأطلسي.
بهذا المعنى، يُمكن القول إن الدور الألماني يمثل الذراع (الأكاديمية - الدبلوماسية) للهيمنة البحرية الغربية، حيث تتولى برلين صياغة الخطاب القانوني والبحثي الذي يُجمّل الوجود العسكري ويُقدّمه في صورة «تعاون دولي من أجل التنمية والأمن».

البحر الأحمر كساحة صراع بين مشروعين
تشير الوقائع إلى أنّ البحر الأحمر بات نقطة التقاء لمشروعين متناقضين: الأول: مشروع الهيمنة الغربية الذي يعيد إنتاج السيطرة الإمبريالية القديمة في قالبٍ مؤسسي جديد يعتمد التفويض بالوكالة ويستهدف نزع السيادة اليمنية. والثاني: مشروع التعددية القطبية والردع اليمني الذي يسعى إلى إعادة تعريف مفهوم السيادة من خلال القوة الوطنية والسيطرة على الموارد والممرات الاستراتيجية.
تسعى ألمانيا -ضمن المحور الغربي- إلى تثبيت مشروعية التفويض الأمني في مواجهة هذا التحول، وإلى تقويض الدور اليمني المتصاعد في معادلة الردع الإقليمي. ومن هنا، فإن الموقف الألماني الأخير جزء من تحوّل بنيوي في منظومة السيطرة البحرية الغربية، يهدف إلى: احتواء الردع اليمني عبر الأدوات القانونية والإعلامية. دعم الحلفاء الإقليميين (السعودية والإمارات) في إدارة «الواجهة المحلية للهيمنة - المرتزقة».

تقدير الموقف العام
تؤكد الوقائع أن التحرك الألماني في تشرين الثاني/ نوفمبر 2025 ليس حدثاً معزولاً، بل هو امتداد عضوي لمشروع الهيمنة البحرية الغربية في البحر الأحمر والخليج.
فمن خلال النشاط الدبلوماسي العلني (بيانات السفير شنايدر)، والنشاط البحري المؤسسي (ورشة الرياض ومؤتمر نابولي)، تعمل برلين على إعادة إدماج نفسها في البنية الأطلسية للهيمنة، مستعملةً أدوات البحث الأكاديمي والخطاب القانوني لتجميل مشاريع السيطرة العسكرية والاحتلال الإداري.
إن التحول الألماني من موقع المانح الإنساني إلى المساند السياسي والأمني لحكومة عدن العميلة، يعبّر عن اصطفاف ناعم؛ لكنه عميق مع المحور (الأمريكي - البريطاني)، وينسجم مع الاستراتيجية الغربية في إضفاء شرعية على الوجود الغربي في البحر الأحمر ومحاولة تقويض الردع اليمني عبر خطاب (إنساني - قانوني)، وتكريس الرياض كعاصمة إدارة البحر الأحمر والخليج ضمن المنظومة الأطلسية.
في المقابل، يظل الردع البحري اليمني العنصر الوحيد القادر على كسر هذا النسق، وإعادة تعريف الأمن البحري وفق منطق السيادة الوطنية والتعددية القطبية، ما يجعل الصراع في البحر الأحمر اليوم صراعاً على المفهوم ذاته: من يملك تعريف الأمن، ومن يملك شرعية القوة.

أترك تعليقاً

التعليقات