طلع البدرعلينا
 

د. محمد النهاري

د. محمد النهاري / لا ميديا -
يدور الزمن دورته لينبثق نور التوحيد الذي أشرق ذات يوم مقدور من وجه سمح هو وجه سيدنا الأب إبراهيم عليه السلام إذ يرفع القواعد من البيت وابنه إسماعيل ليكون مثابة للناس وأمنا. وفي غمرة استبداد أسود كئيب انبثقت ظلامات إبليس المرجوم لتغير ما خلق الله من فطرة سماوية ليتطاول مشرك يتخذ نفسه آلهة تعبد دون الله صاحب البيت الحرام فيسود ثلة من البشر تستعبد الناس وتجعل من فئاتهم بل طبقاتهم العبيد السخرة المستضعفين الأشقياء باسم الإله الفرد الواحد الصمد الذي لا شريك له ولا ولد، ثم يبدو الحرم الآمن محلاً لأصنام وأوثان يتخطف الناس من حوله، ملكا لأسر وعشائر وقبائل وشيوخ يضطهدون الخلق كلا بحسب نفوذه وقوته لا معقب عليهم ولا رقيب أو حسيب لهم.. فتتعالى صيحات المظلومين تثج وتعج تشق عنان السماء، فإذا بنور الله يشرق في رحاب السماوات والأرض كما تشرق الأرض الجدب بعد طول انتظار بزروع وثمار وجنات وأنهار، فإذا بمحمد فقير مكة يستهل صارخاً لتخر أصنام طغاة مكة وتنطفئ نيران استبداد فارس، وليست معجزات هذا الشاب الفقير شيئاً ذا بال بجانب المعجزة الكبرى الماثلة في أن هذا القادم يعلن على رؤوس الأشهاد أن «لا إله إلا الله وحده لا شريك له» الذي من صفاته العدل والحرية والمساواة، وأن لا فضل لأحد إلا بالتقوى والورع والعمل الصالح وجهاد النفس والدين المعاملة وأن الإيمان الحقيقي هو خوف الله ومراقبته وأن أحدا لا ينجو من العقاب إن هو أخطأ أو أساء.
وهنا ضاقت على الشيطان وأعوانه الأرضون والسماوات بما رحبت فاستخدموا كل عبقرياتهم ليطفئوا نور الله بأفواههم وأيديهم وأرجلهم، وحسبوا أن محمدا هذا اليتيم الفقير راعي الشاء والبعير -كما هم- يطمع في شهوة جنسية، إذ عرضوا أن يزوجوه بأجمل بنات العرب، أو شهوة تسلط أو تأمر مال، إذ عرضوا عليه أن يكون عليهم ملكاً أو أغناهم مالاً، ولكنها النبوة، فيحاولون -آخر الدواء- فيكيدون له بالقتل انتصاراً لباطلهم فتكون له معية الله تكلؤه.
«وإذا المعية لاحظتك عيونها
نم فالمخاوف كلهن أمانُ»
*
وما يلبث أن يدعو محمد إلى دين الله القديم الجديد: الإسلام، دين أبيه إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلهاً واحداً، فيضج الشرك وتأخذ أصحابه صيحة الحق، غير أن الأكوان تنال من هذا النور فيتسق معه تردد التسبيح، فما من شيء إلا يسبح بحمده ويقدس له، فالسماوات مطويات بيمينه والشموس والأقمار والمحيطات والبحار والأنهار والفيافي والبيد والقفار تسير بإيقاع منغم ونشيد محكم، تسير وفق حكمه لا راد لحكمه ولا معقب لقضائه.
وكما هي سنة المرسلين والأنبياء والمصلحين، لقي سيدنا النبي ما لقي من صنوف الأذى والعذاب حتى في ممشاه وطريق خطواته وفي عرضه «الحصان الرزان»، فتنزل عليه الآيات تعزيه وتواسيه بينما هو يقول عندما ينزل به أذى وعنت يخاطب ربه: «اللهم إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي»!
وعندما ضاقت القلوب المشدودة والمحكمة الأقفال فلم يتسرب إليها شعاع نور كانت هناك منافذ تستروح أشعة هذا النور الربّاني الذي استطار في فضاء الله الواسع «البديد»، إنه فضاء يثرب حيث «الخؤولة» لها جذور نسب وحمية قربى، فتكون «يثرب» بني النجار باب سماء الهداية وعاصمة النور المبين والدعوة الراشدة.
تفيق مكة صباح ذات يوم «ثاكلاً» موحشة أرجاؤها الرحاب ومضايقها العجاج، فاقدة أغلى محب وحبيب سراجها الوهاج ونورها المبين، يبكيه شجرها وحجرها، وبينما يمكر به عبد الطاغوت ومستعبدو الإنسانية فإن الفطرة تندب حظها العاثر، وإذا بالفاتك الماجن «سراقة» الطلعة لأمنيات شتى عذاب ورغائب مختلفة يصيح به فرسه فتغيب قوادمه في رمل مهمة كثيف يا بيد أوّبي واشتهدي شهادة الحق، وفي يثرب التي أرهقها مرابو يهود وانتهازية أصحاب المنافع وقد وصلتهم بشارات نبوة قادم مكة تأخذهم رجفة الخسران والبوار، بينما تخفق سعادة وبشارة السماء في قلب كل نخلة وزهرة لتتلقى حفائد الموءودات موعدا لحياة الرحمة والرحم فيعم نشيد يطرب كل حي وجماد ويهفو لنغماته كل حاضر وباد:
طلع البدر علينا
من ثنيات الوداع
فيجيب الحجر والشجر:
وجب الشكر علينا
ما دعا لله داع

أترك تعليقاً

التعليقات