د. محمد النهاري

د. محمد النهاري / لا ميديا -
للناقدة اللبنانية يمنى العيد عبارة نقدية في معرض حديثها عن النص الأدبي: "في النص الأدبي توجد مراجع كثيرة". العبارة تعني أن للنص أكثر من مخزون، أكثر من مرجعية، في الذاكرة، من ذلك ما ذهب إليه ثالث أثافي علم النفس الألماني (كارل يونج) أن الإنسان يرث من أبويه البعيدين ثقافتهما كما يرث لون عينيه وبشرته، وأن هذه الوراثة ساكنة في "تلافيف" الدماغ، قابلة للاستدعاء (نظرية اللاوعي في علم النفس).
وقبل الكلام نفتتح الحديث بواقع معيش تسجله حوليات الأدب العربي أن أعدى أعداء الحكام والسلطان العرب هم الأدباء النوابغ، وخاصة الشعراء. لقد صدق الإمام أحمد يحيى حميد الدين حين خرج على أكبر شعراء عصره وهم في بلاطه يدبجون أحلى قصائد "الوثنيات"، فسلّ سيف "وشاحه": "والله لأروين سيفي هذا من دماء العصريين"، فوفى الوعيد. ومن حسن حظ الشعراء وسوء حظ شعوبهم أن أجمل شعر أبدعوه على مستوى الفكرة والصورة إنما هو في الزعماء الحكام، في القديم والحديث. من ذلك قول أبي تمام في الخليفة المعتصم في فتح عمورية:
لَبّيْتَ صوتاً زبطرياً هرقتَ له
كأس الكرى ورضاب الخُرَّدِ العُرُبِ
غادرتَ فيه بهيمَ الليلِ وهو ضحى
يشلُّه وسطها صبحٌ من اللهبِ!
والزبيري عن الإمام يحيى:
مِن وجهِ هذا المُحيّا يشرقُ العيدُ   
والفخرُ والمجدُ والعلياءُ والجودُ
وقوله:
مِن أين يأتيك العدوُّ وأنت في 
أرضٍ تكادُ صخورُها تتشيَّعُ
وقول محمد مهدي الجواهري في الرئيس السوري حافظ الأسد:
سلاماً أيها الأسدُ       سلمتَ ويسلمُ البلدُ
وتسلمُ أمةٌ فخرتْ      بـأنك خـيرُ مَن تلِدُ
وقول نزار في رثاء جمال عبدالناصر:
قتلناكَ يا آخر الأنبياءْ
قتلناكَ.. ليس جديدا علينا اغتيال الصحابة والأولياء
فكم من رسولٍ قتلنا!
وكم من إمامٍ ذبحناه وهو يصلي صلاة العشاء!

وسوف أكتفي بنموذج من معاني أبي تمام. وليس القارئ بحاجة إلى أن أذكره بأن الشاعر العربي كان إذا وجد في نفسه نبوغ العبقرية غادر إلى العاصمة، أكانت بغداد أو دمشق، فيبيت يعصر قريحته لتتمخض عن معانٍ مبتكرة طريفة، كما يحاول أن يحسن عرض بضاعته. فمن قصيدة قالها أبو تمام بمدح الخليفة المعتصم يصف كرمه:

هو البحرُ من أيِّ النواحي أتيتَهُ
فَلُجَّتُهُ المعروفُ، والجودُ ساحلُهْ
تعوّدَ بسطَ الكفِّ حتى لو انه
ثناها لقبضٍ لم تطعْهُ أناملُهْ
ولو لم يكن في كفِّهِ غيرُ روحِهِ
لجادَ بها، فليتقِّ الله سائلُهْ!

ولغة هذا النص من التلقائية ووفرة التجربة الشعرية وثراء المعنى ما يغني عن الشرح.
لنفترض أنك عزيزي القارئ وأنا قد حضرنا مجلس المعتصم، والشاعر أبو تمام ينشد هذه القصيدة، وتحديداً هذه الأبيات؛ ما هو شعورك؟!
أما أنا فستعروني رعدة كما انتفض العصفور بلله القطر، حسب عروة.
كنا في تناولة سابقة قد سردنا مكونات النص الشعري، ومن بينها التجربة الشعرية، تلك التي تشكل "أدبية" النص ضمن بنيات اللغة والفكرة والموسيقى والصورة والأخيلة. ولكنا هنا نشيد أو نقف على أبرز مكون في هذا النص، وهو التجربة الشعرية الموغلة في إنتاج معنى يثير في نفس البخيل -فضلاً عن الكريم- أريحية غير محدودة. ونعني بعبقرية المعنى الفكرة يعبر عنها تعبيرا طريفا غير مطروق، شاره، وضىء، مفعم بوضاءة تجربة شعرية كاشفة. ووُصف أبو تمام بأنه شاعر التكلف والتعقيد ومحب التمحل والتغور في المعاني!
ومثل صنيع الأموي مضى علي بن عبد العزيز الجرجاني في كتابه "الوساطة بين المتنبي وخصومه"، إذ مال دون مواربة إلى المتنبي.
وعودا على بدء نحاول الحوار مع الصورة؛ ولكي نضع بين يدي زملائي من طلبة قسم اللغة العربية "الصنارة" بدل الصيد، فإني أذكرهم بالإجراءات التي تمكنهم من تحليل النص الأدبي، بما في ذلك النص القرآني أو الحديثي.
فالخطوة الأولى: أن تقرأ النص أكثر من مرة؛ لأن كل قراءة تفتح أمام القارئ أفقاً واسعاً أكثر من ذي قبل. بل يتسع الأفق ويضيق حسب الحالة النفسية.
الثابتة: أضع خطاً تحت المفردة المعجمية، لأفهمها أولاً وأضعها في سياقها، فالسياق الذي يعني الأفكار في نظام واحد شرعية هو الذي يعطي شرعية أو فعالية للمعنى المراد؛ فمثلاً لفظة "ظن" توحي باعتبارها لفظة مفردة بمعنى توهم أو قدر أو زعم، مع أنها تفيد معنى القطع والجزم في قوله تعالى في الآية السادسة والأربعين من سورة البقرة: "الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم"، أي يؤمنون قطعاً بيوم القيامة!
الثالثة: أن ينتقل القارئ إلى دراسة القيم الجمالية في النص، التي تجعل من النص نصاً أدبياً، أو بعبارة أخرى الإجابة على سؤال: ما الذي جعل النص أدبياً وبشكل يميزه عن غيره من النصوص؛ كالنص العلمي، فالنص العلمي مقوماته كالقطعية التي تحتاج إجراءات أخرى تعتمد المقدمة والنتيجة، فـ 4+4 يساوي 8، ولا تعتمد الجماليات كأساس في تكوين النص. ونعني بالجماليات علم البيان من تشبيه واستعارة وكناية. وربما يستعين النص ببعض جماليات علم البديع من جناس وتورية ومقابلة (طباق)... وقد يلتفت قارئ النص إلى ما توحيه بعض الأفكار النصوصية من إيغال وسبك يدخل في إثراء المعنى، بما نسميه في علم المعاني "الإيحاء". والمعاني تقسم الكلام أو الأسلوب إلى قسمين، وإن بشكل مرن غير مفاصل: أسلوب خبري وهو ما يفيد السامع أو المتلقي بحدوث شيء ما، كقوله تعالى: "وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا"؛ وأسلوب إنشائي وهو في الغالب ما يدل على حدوث شيء، كقوله تعالى: "وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة"، ومثل ما يتعلق بالإيحاء هو أن يصير الخبر إنشاء، كقوله تعالى: "وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا"، أن يفيد الخبر الإنشاء، أي فتوبوا إلى البيت وآمنوا، فاستحال الخبر إلى إنشاء. والقارئ الناقد هو الذي يلاحظ دور المكونات الجمالية في أدبية النص. وأنا أكره تماماً تشبيه أبي الطيب المتنبي في رثاء أخت سيف الدولة:

صلاةُ اللهِ خالقِنا حنوطٌ
على الوجهِ المكفَّنِ بالجمالِ
فأي قبح أن يكفن الجمال بالحنوط؟! بل أي موقع قلق للغط الكفن؟! وأحكي موقفاً حصل لي ذات عرس، فقد سمعت فناناً في بداية المقيل يغني هذه الأغنية السمجة المثيرة للتقرز: "مسكين يا ناس من قالوا حبيبه عروس"، فقمت إلى الفنان ورجوته أن يوقف هذه المهزلة، فاستجاب غير مشكور. ولما عدت إلى مكاني سمعته يغني لأيوب: "رح لك بعيد رح لك ما عادناش لك". فكلتا الأغنيتين مقززتان مقرفتان، فأطلقت على المطرب "فنان المقابر"، مع أني كنت لسوء اختياره أود ولم أزل أطمع أن يجنح هذا الفنان القبوري للسلم!
الرابعة: أن يقوم القارئ بعملية نقدية، وهي الحكم على النص من حيث تقويمه ومن حيث قيمته. فتقويم النص إحدى حيثيات الحكم. أما تقييمه فيعني بذلك مكانته بين النصوص، وهو ما يعنيه الناقد الفرنسي "لانسون" بأن النقد الأدبي هو دراسة النصوص أو هو تمييز الأساليب.

ولو لم يكن في كفه غير نفسه
لجاد بها فليتق الله سائلهُ
يقول الشاعر يصف ممدوحه بأنه مطلق الكرم، فلو لم يجد ما يعطي من سأله غير روحه لأعطاها للسائل، والجود بالنفس أقصى وغاية الجود.
لقد كان الجدب والمحل أيقونة العادة في شبه الجزيرة العربية. والجاحظ (ق. ث للهجرة) يورد في كتابه الذي كرسه لإعلاء شأن العرب والعروبة رداً على الشعوبية والشعوبيين بذكر أن الشعوبيين ينتقصون من العرب باعتبارهم حرشة ضباب يولون على أعقابهم (البيان والتبيين، عبد السلام هارون، القاهرة). وامتن الله على العرب بأنه "أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف". وقد أكد وجود هذه المسبغة القرآن الكريم، فكافأ من "يقتلها" بأنه سيلاقي رحمة الله، أسوة بمن يكفل اليتيم ذا القرابة والمسكين الذي تلصق يده بالتراب لشدة فقره "فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة".
ولقد جنت فكرة التجديد الخالية من فكرة صائبة، وهي أن لكل أدب خصائصه الثقافية المتوازنة عبر القرون، فحاول كتاب الديوان عباس العقاد وعبدالقادر المازني وعبدالرحمن شكري أن يطبقوا صياغة الشعر الإنجليزي -بحكم ثقافتهم الإنجليزية- على صياغة الشعر العربي القديم، فاتهموه بعدم الوحدة العضوية، مغفلين حقيقة أن هذا الموضوع سبق أن طرقه ابن قتيبة في كتابه الفذ "الشعر والشعراء"، حين سبب تشكيل القصيدة العربية، التي تبدأ بالوقوف على الطلل ثم النسيب ثم الرحلة ثم الغرض وهو المقصد الأخير. وفاتهم ما كتبه مرجليون وغيره من المستشرقين. وتفسير آخر وهو أن الشاعر القديم كان يكتب البيت الواحد فينصرف إلى بعض شأنه ثم يرجع ليكتب البيت الثاني مع اختلاف حالته النفسية في البيت الثاني عن حالته النفسية حين كتابته البيت الأول. أقول ما قرره الأستاذ "لانسون" من أنه لا بد أن يكون لنا ذوقان: الأول حين نختار ما يروقنا من عمل فني أو أدبي، والثاني تاريخي نستخدمه في دراستنا، وهو ما يمكن أن نعرفه بأنه فن تمييز الأساليب، وهو تعريف جديد للنقد.
ولسوف أكتفي بواحد من نصوص المعاني، لسبب بسيط، وهو أن أبا تمام الشاعر قاله في المعتصم الخليفة، ومعنى ذلك أنه قد حاول أن يصوغ المعنى صياغة خاصة استقصى فيها غاية ما يعبر عن الفكرة من وضوح وجمال الأداء:
هو البحر من أي النواحي أتيته
فلجته المعروف والجود ساحلهُ
تعود بسط الكف حتى لو أنه
دعاها لقبضٍ لم تجبه أناملهُ
ولو لم يكن في كفه غير روحه
لجاد بها فليتق الله سائلهُ

وطرافة المعنى كما نراها واضحة في تمرد حواسه لصالح قيمة الكرم، وكذلك روحه، فكفه مطلقة البسط، لا تأتمر إلا حين يدعوها الجود، وروحه تتأبى على الموت، كما تأبى الخروج إلا حين يدعوها الكرم، والجود بالنفس أقصى غاية الجود. ولقد وفرت عبقرية الصياغة المعنى بأجمل صياغة، منها أن العبارة اللغوية مكافئة لعبارة المعنى، ومنها تناسق النغم المعنوي كما لو صمم الإيقاع الموسيقي مع إيقاع الفكرة فشكل أداء منضبطا.
إن لغة النص صورة، إذ شبه الممدوح بالبحر المسورة سواحله بالجود، ولجته المعروف، والروح شيء محسوس كالمال، وفكرة قادرة على اختزال قيمة الكرم، وموسيقى تشبه فخامة موسيقى العرض العسكري. وقد ساعد كل ذلك في إنتاج تجربة شعرية تثير انفعالا حميماً بين المعتصم وغير المعتصم، والشاعر والمتلقي، مخترقة الزمن عبر القرون لتصل طازجة إلى المتلقي برشاقة ماتعة!
لنفترض وجودك معي أيها القارئ الكريم وقد شرفنا بحضور مجلس الخليفة، وانبرى أبو تمام ينشد هذه المعاني الكريمة! لا أريد أن أسمع شعوري قبل أن أعرب عن شعوري:
كما انتفض العصفور بلله القطرُ!
ولكن ليس عندي خيل أهديها ولا مال!!
وإذ قال الشاعر القديم إن صنع القصائد في قصيدة واحدة، وإذ قال نقاد الشعر القديم إن القصيدة ليست إلا بيتاً واحداً، مثل صنع الخنساء في رثاء أخيها صخر، إذ أجمل هذا البيت بقية الأبيات:
وإن صخراً لتأتم الهداة به
كأنه علمٌ في رأسه نارُ

فإن هذا يؤكد فكرة ما أسميه "الفكرة المركزية"، أو سيادة المعطى المفتاح في النص. أما بقية الأبيات الأخرى فعبارة عن تنويعات توشح الفكرة وتعضدها!
إن هذا النص في المعتصم لأبي تمام أكثر من نص حافل، كل بيت فيه معمور بالتجربة الشعرية المثيرة، وبفاعلية، ما يجعل المتلقي يلغي الفاصل الزمني بين أيام المعتصم العباسي والراهن.
كان الشاعر العربي القديم حريصاً على أن يكون مسموع الصوت. وبقدر الجهد الذي يبذله يلقى المكافأة، فهو يجتهد أن يكون مبتكر المعاني الفخمة التي تظهر أهم خصائص الممدوح ومحله في الوسط الاجتماعي، فهو لذلك يحاول أن يرضي السلطة أولاً ويرضي الجمهور أولاً كذلك، فالشاعر في المقام الأول إعلامي، منافق، دجال، يعلن غير ما يسر. وقد حقق أبو نواس هذه الفكرة بوضوح عندما أعلن أنه مضطر لذلك (انظر أخباره في الأغاني) الأمر الذي يساعد الباحثين.
وبقيت لنا كلمة عتاب وليست نقداً قد يدفعها شيخنا أبو تمام بما وهبه الله من بصيرة وحكمة. وهو عتاب أحسب أن أبا تمام يضيق به ولو جاء على هيئة سؤال: ما الذي دفعك يا شاعرنا لتسطو على بيت لزهير قاله بمدح هرم بن سنان من رائعته التي مطلعها:
صحا القلب عن سلمى وأقصر باطلهُ
وعُرّيَ أفراسُ الصبا ورواحلهُ

يقول البيت:
تراه إذا ما جئته متهللاً
كأنك تعطيه الذي أنت سائلهُ!

قال أبو تمام هناك ما عزى فرق بين المعنيين، فمعنى زهير يكتمل بالتقدير، بمعنى أن عجز البيت يكتمل بعملية إغلاق شعري، فالبيت يُفهم من خلال صدره فيصبح مكرراً، أما بيتي:
ولو لم يكن في كفه غير روحه
لجاد بها، فليتق الله سائلهُ
مغمور بالطرافة والجدة والعمق والتوحيد أيضاً.
لقد شكل أبو تمام منعطفاً شعرياً وتحولاً على صعيد الموضوع والصياغة. وإنك لتجد في شعر أبي تمام رواءً وحيوية وحركة وإشراقة تعبر عن شخصية لا يمكن أن تقرأ إلا وفق مفاتيح كثيرة، من ضمنها مفتاح الفيلسوف عالم النفس الكبير "ألفريد أولر" في ضوء "عقدة النقص".

أترك تعليقاً

التعليقات