خارج الحسابات الأنانية، يعيش أنبل الفرسان، وعندما يستشهدون، تظل ذكراهم ينبوعاً متدفقاً يروي عطش الرجال للشهامة والتضحية. حسن الملصي (أبو حرب) حفر اسمه في الذاكرة الوجدانية لشعب اليمن. . اليوم، ومع الذكرى الثانية للعدوان، تسلط صحيفة (لا) الضوء على سيرة الشهيد البطل أبو حرب الذي تمثل قصته نموذجاً تنهل منه أجيال اليمن على مر الزمن. 
حازماً من النظرة الأولى
توحي صورة الشهيد حسن الملصي أن خلفها سخصاً خشناً، لم يعد يكترث للأوجاع التي قد تحدث في هذا العالم، لكن السيرة الشخصية التي عاشها، تكشف عكس ذلك تماماً، فقد كان شخصاً ودود الطباع، طيب القلب، أكسبته الحياة العسكرية مراساً، وصلابة كانت تجعل من يراه للوهلة الأولى يعتقد أنه أمام شخص يمتلك قلباً قاسياً وطباعاً حادة، لكن سرعان ما تتغير النظرة بعد التعرف عليه، وأن المظهر الصلب يخفي وراءه إنساناً يمتلك من الاتزان والثبات ما لا تمتلكه الجبال، وكان بذلك خير مثال لطبيعة أرض اليمن: شديدة وعرة لمن أراد شراً، وخيرة معطاءة للخيرين.

داعي النخوة الأول
مطلع أبريل 2015، تعرض أحد المنازل في حي الحصبة بصنعاء، لغارة، وقد صادف ذلك تواجد الملصي في المكان، والذي سارع لإنقاذ ضحايا الغارة من تحت أنقاض البيت المحطم، أخذ يثابر برفع الأنقاض لإنقاذ روح يمكن إنقاذها من تحت ركام البيت المدمر، تأثر الضابط الشاب تأثراً كبيراً، وهو يخرج أشلاء الأطفال الذين قتلتهم الغارة، وفي كل مرة كان يتم فيها التقاط جثمان طفل، كان الملصي يقول متألماً: هذا ولدي فلان.. هذه ابنتي فلانة.. وهكذا كلما أخرجت جثة كان الملصي يتخيلها من أبنائه وأفراد أسرته. لم يكن قد مضى على العدوان أكثر من أسبوعين، لكن حسن الملصي أدرك ببصيرة نافذة، أن العدوان لن يستثني بيتاً في اليمن دون أن يثكله، وهو ما نعيشه اليوم بعد إتمام عامين من العدوان.

لا نامت أعين الجبناء
وبعد أن عاد حسن الملصي إلى منزله في قرية ربد بسنحان، أطرق ملياً في التفكير، مختلياً بنفسه، أي ذنب ارتكبه اليمنيون يستحقون على أساسه كل هذا القتل؟ وعندما أشرقت الشمس على صباح اليوم التالي للغارة، كان الملصي قد حزم أمره على التوجه لساحة مواجهة العدو، فلم يعد للاستنكار والبقاء في البيت مكان في نفس كل غيور، مع عدو يفتقر للأخلاق سيقتل الجميع لأنهم يمنيون، ولا حاجة لهذا العدو أن يفبرك التهم ويلصقها بالشعب (حوثيين) (انقلابيين)، حتى يقتل الأطفال.

الحرية والذل لايجتمعان
في الـ14 من أبريل، وبعد أيام من مقتل أسرة في غارة الحصبة، توجه الملصي إلى ميدان الشرف للدفاع عن الأرض والعرض، غادر العميد حسن الملصي، وهو يبني بيديه بيتاً لأولاده، ترك خلفه أطفالاً كان يقضي معهم وقتاً ممتعاً بالمرح واللعب، كان حسن الملصي قد اكتسب مكانة مرموقة في القرية بمساعيه الاجتماعية للصلح بين المتخاصمين حتى وإن اضطر لدفع المال من جيبه لتسوية الخلافات، ويعرف عنه الجميع مواقفه الإنسانية مع المرضى والمحتاجين، ولم يكن يتردد في المكوث مع المرضى المحتاجين له بالمستشفيات حتى يخرج المريض من المستشفى.

رصيد إنساني حافل
أخلاق النبل التي عُرف بها حسن الملصي تجاوزت الحدود، فعندما تعرضت ابنته الوحيدة بين 4 ذكور لحادث اصطدام بدراجة نارية، دخلت على إثرها إلى المستشفى بحالة غيبوبة، هرع أهل القرية إلى حسن الملصي، ووضعوا بنادقهم بين يديه تجنباً لمشكلة قد تنجم على سائق الدراجة، فالجميع يعرفون مدى حب حسن الملصي لطفلته رقية، لكن الملصي قال لمن وصلوا إليه بحثاً عن العفو (خذوا بنادقكم، ومن عفا، عفا الله عنه). وفي اليوم التالي قام حسن الملصي بزيارة لسائق الدراجة النارية الذي ألأصيب هو أيضاً بالحادث، وقال له (لاتقلق، كل شيء سيكون بخير)، وأعطاه مبلغاً من المال، ثم انصرف.
وبعد أن فقد أبو حرب ولده الأكبر في مواقع الشرف بنجران، أبلغ أثناء عودته من الجبهة لقضاء الإجازة بإصابة ولده الثاني في حادث إطلاق نار وقع خطأً في سوق القرية، وأن ولده أسعف للمستشفى بصنعاء، بينما وضع مطلق النار في السجن، أقسم أبو حرب إنه لن يذهب لرؤية فلذة كبده إلا بعد أن يخرج مطلق النار من السجن، وعندما سئل الملصي عن تسامحه السريع مع مطلق النار الذي أصاب ولده، قال (عفا الله عنه.. لم يكن يقصد، دعونا نتفرغ لمن يقتل أبناءنا قصداً)، بالإشارة إلى العدوان الأمريكي ـ السعودي.

تتبدل الخنادق لكن الوطن لا يستبدل
يروي المجاهدون قصة طريفة عن المرة الأولى التي وصل فيها أبو حرب للجبهة، سأل المجاهدين لماذا لا نبدأ الآن بتنفيذ عملية هجوم على مواقع العدو؟ فقالوا له انتظر حتى تتعرف على المشرف، فتساءل القائد عن جدوى انتظار المشرف، وأخذ يتخيل أن المشرف الذي ينتظر وصوله سيكون شخصاً متغطرساً لم يعرف غبار المعارك، وفجأة وصل شخص يحمل على ظهره (شوالاً) ثقيلاً مملوءاً بالذخيرة، تساءل أبو حرب من هذا؟ فقالوا له هذا المشرف، وتعرف البطلان الشهيدان حسن الملصي وأحمد العزي، على بعضهما، واكتشف كل منهما أنه كان خصماً للآخر في إحدى المعارك من الحرب السادسة، كان الملصي خلالها قائداً للمعركة من الجيش، وأحمد العزي قائداً لقوة أنصار الله، وقد شاءت الأقدار أن يجتمعا في خندق واحد لمواجهة عدو اليمن، وعلى يديهما تأسست جبهة نجران بعد 40 يوماً من بدء العدوان.
 
خطوات محفورة على جبال نجران
تمتد جبهة نجران على مساحة تقدر بـ360 ألف كيلومتر مربع، وقد عملت السعودية على إخلاء مساحة 20 كم على شريطها الحدودي مع اليمن، استعداداً للمواجهة، وبعد أن تم إخلاء تلك المساحة من السكان، أعلنت من قبل نظام بني سعود منطقة عسكرية يمنع على المواطنين الاقتراب منها، وقد عملت السعودية على درز تلك المناطق بالآليات العسكرية، وزرعت فيها الألغام، وبثت عليها أجهزة الترصد والكاميرات الحرارية المرتبطة بأجهزة الإنذار لتنبيه الجيش السعودي في حال وجود أي تسلل قد يحدث من الجيش واللجان الشعبية، إضافة إلى حماية جوية متواصلة ليل نهار لرصد وضرب أي تحركات من الجانب اليمني.
لم تكن التحركات الأولى للجيش واللجان داخل الأراضي السعودية سهلة، وكان لابد من التحلي بالكثير من الصبر والتضحيات، لتجاوز الحدود المسيجة بمختلف تقنيات القتل، قبل التوغل داخل العمق السعودي، وكانت حنكة الملصي ـ الذي أصبح يكنى أبو حرب ـ تقود الخطوات الأولى للنمور اليمنية، والتي تمكنت من كسر حاجز الدفاع الأول الذي كثفته السعودية على مساحات واسعة من الحدود، والتي كان نظام بني سعود تعتقد أنها تمثل حصناً منيعاً لن يتمكن أحد من تجاوزه، لكن العزم والإصرار اللذين أبداهما المقاتلون اليمنيون كسرا خطوط المنعة السعودية، وأثناء تلك المرحلة كان أبو حرب ورفاقه من المجاهدين الأوائل ينحتون بخطواتهم على جبال نجران الذاكرة الأولى لانتصارات لن تمحى أبداً من عقل ووجدان شعب اليمن.. ثم أخذت أطوار العمليات داخل الأراضي السعودية تتسع شيئاً فشيئاً، حتى وصلت اليوم إلى مرحلة إخراج أراضي جنوب المملكة من سيطرة نظام بني سعود.

أخلاق الفرسان
لم يغضب حسن الملصي لأن طيران العدوان قتل فرداً من أسرته أو دمر شيئاً من ممتلكاته، لم تستهلكه معادلات الحساب المثبطة بين الحياة المستكينة الخانعة تحت الظلم والذل والتحديات الماثلة بعدو استباح أرض اليمن قتلاً وتخريباً، وعندما مضى أبو حرب الى الجبهة لم يترك شيئاً من ممتلكاته لأبنائه، بل أخذ سياراته الثلاث، وتبرع بها لصالح المجهود الحربي، وعندما ثارت حمية ولده الشبل عبداللطيف لم يمنعه والده من تلبية نداء الواجب من منطلق حرص الأب على الابن، وعندما حاولت الأم أن تثني ولدها عن قراره أجابها الابن هل تضمنين لي ألا يقتلني الطيران في البيت؟ وتعليقاً على هذا الموقف قال أبو حرب (حينها أعجبت بمنطق عبداللطيف، وشعرت بأن ولدي أصبح رجلاً ناضجاً، يعرف ما يتوجب عليه تجاه وطنه ودينه).

من جديد نتعرف على أبو حرب
في وقت الضيق والشدة، يمكن التعرف على المعادن الحقيقية للرجال، وهي أوقات ينفضح خلالها مدعو الأخلاق، وأثناء الأوقات العصيبة التي عايشها المجاهدون على جبهة نجران، أظهر أبو حرب من رباطة الجأش والاتزان ما أذهل الجميع، فقد كان يعرف أن الصبر والاتزان هما أول شيء يمكن أن يسلبك إياه العدو من أجل هزيمتك، وفي ساعات المحن عندما كانت الأرواح تصل الى الحناجر، كان أبو حرب يزداد من الثبات والوقار ما جعل رفاقه المجاهدين يعتبرونه الأب والأخ، لما كان يظهره من الرفق واللين تجاههم، ويصف رفاقه الذين كانوا يعرفونه سابقاً، أن الملصي فاجأهم بما يمتلكه من الصبر والشهامة خلال الأوقات الصعبة التي تدفع الجميع للتخلي عن الاتزان، ويضيفون أن من كان يشاهد شدة أبو حرب في المعركة مع العدو، وتعاطيه في ما بعد مع المجاهدين، لا يصدق أنه أمام نفس الشخص.

مع الله والوطن
يتحدث رفاق السلاح من المجاهدين عن حسن الملصي بالكثير من الإجلال، فقد كان كثير التلاوة للقرآن، وكان يحدث رفاقه عن المقاصد السامية للإسلام، ويشرح لهم الآيات القرآنية بأسلوب سلس يسكن القلب والعقل معاً، ويبدو أن أبو حرب كان قد تفقه في أمور الدين واللغة منذ مراحل مبكرة، الأمر الذي أنشأ لديه حصانة من الوقوع فريسة سهلة في شراك مستخدمي الدين لأهداف شخصية، وعندما حانت ساعة الحق عرفه بدون تردد، فشكلت معرفته الدينية، إضافة الى دراسته الأكاديمية العسكرية، وطباع الفارس الفطرية، عوامل جعلت منه قائداً محنكاً قهر مملكة بني سعود في عقر دارها.

لحظات إنسانية صعبة
عندما أبلغ أبو حرب باستشهاد نجله الأكبر عبداللطيف، عبر أجهزة اللاسلكي، تلقى الخبر بثبات، ووجه الأمر بدفنه في نفس الموقع الذي قتل فيه ولده مع مجاهد آخر في موقع الشرفة بنجران، لم تظهر على أبو حرب أية علامة توحي بالصعقة، ومهما كانت العزيمة لدى أي إنسان، إلا أن هناك مواقف يمكن لأي كان أن يتخلى عن صلابته، ويظهر الأسى دون أن يلومه أحد، لكن موقف أبو حرب من خبر مقتل ولده انطلق من فكر ثاقب لقائد ولد محنكاً بالفطرة، فقد كان أبو حرب يبعث برسالة للمجاهدين تحت إمرته: لاتفقدوا انضباطكم مهما كان الأمر، ولا تسمحوا للأحداث أن تنال من عزيمتكم ومعنوياتكم.

أبو حرب في كل مكان
عندما استشهد أبو حرب، في 22 سبتمبر 2016، بموقع نهوقة وسط تجران، لم يكن قد تجاوز الـ40 من العمر، وقد فرح إعلام العدوان كثيراً بمقتله، حيث تعرض الملصي لحملة قدح وتجريح، أبعد ما تكون عن الخصومة الشريفة، أو عن السيرة الحقيقية للرجل، وتم تلفيق الأكاذيب انتقاماً من الملصي الذي اجترح البطولات قائداً مخططاً ومجاهداً في مقدمة الصفوف، لكن ما لم يدركه نظام بني سعود هو أنهم أصبحوا يواجهون أبو حرب في كل مكان.