يعيشون خارج اللحظة ويرقصون على أوجاع وطن
ناشطو المقاهي..  دخان الأراجيل  يحجب أدخنة الحرب ومواقفهم منها


لا تستغرب حين تسمع صوت طيران العدوان وهو يحلّق تارةً، ويقصف تارةً أخرى، وفي الجهة المقابلة تسمع موسيقى صاخبة أشبه بحفلات (الزار) في مقهى أو استراحة، جمهور هذه الحفلات شبان وشابات ممن يصنفون أنفسهم بالناشطين والناشطات. وقد تتساءل أين هؤلاء يعيشون؟ وهل يسمعون ما يجري في الخارج؟ وهل ترضى عنهم أنفسهم بما يقومون به؟ بالتأكيد أسئلة كهذه وغيرها ناقشتها صحيفة (لا) مع ضيوفها الذين شخّصوا تلك الحالات التي قد لا تعبر إلاّ عن أشخاص يعيشون بمنأىً عما يحدثُ للوطن من قصف وإبادة وحصار وتجويع، لينعموا بلحظات بذخ خارج الشعور بمعاناة ما يحدث..
لقطة..
وأنا بطريقي لتحرير مادتي الصحفية ذات قصف هستيري، وإذا بي أمرُّ من جوار مقهىً تنبعثُ منه أصوات موسيقى صاخبة، وقهقهات تصلُ لنهاية الشارع... لم أتوقع أن أصل المكان من شدة القصف والتحليق الكثيف لطيران الحقد العربي، ولم يخطرُ ببالي أن تحت هذا الجو الهستيري المجنون والقاتل، من يحتفلون بهذه الطريقة الباعثة على السخرية والشفقة في آن واحد، مما جعلني أشعرُ بخيبة أمل أن بين ظهرانينا من لا تعنيهم الحرب، ولا يعنيهم سوى أن يعيشوا لحظاتهم، وإن كانت على حساب جماجم أبرياء يدفعون ثمن لحظاتهم تلك.

سلوكٌ شاذ
الوطن يجمعنا، والحزبية لا تفرقنا، هكذا يجب أن يكون شعارنا جميعاً في مواجهة العدوان الغاشم على بلادنا، ومواجهة التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية السلبية التي من شأنها أن تضر بوحدتنا وهويتنا وثقافتنا.. من تلك الزاوية تحدث الأستاذ عبدالله البابكي (مدير إدارة الفهرسة بدار المخطوطات)، مضيفاً إليها: ومن هذا المنطلق، فإن الممارسات الضيقة من قبل البعض، وليس الكل، تجاه التأييد المطلق للعدوان والاحتفاء به، تعتبر (سلوكاً شاذاً)، لا يعبر عن القيم اليمنية ا?صيلة، ولا يعبر عن إرادة الشعوب التواقة للاستقلال والرافضة بالفطرة ?ي تدخلات خارجية، فما بالك بعدوان يدمر ويقتل كل شيء.

غطاءٌ للإثارة
ويرى يحيى جحاف (أديب ومؤرخ) أن الناشطين والناشطات مسميات يتخذها البعض لغايات متعددة، منها: غطاء للإثارة والبلبلة، وتأييد العدوان تحت سقف الحريات العامة والخاصة، وهذا ما أظهرته الأحداث، إذ كان العشم في كثير من الشخصيات التي أوهمتنا بثقافتها ووطنيتها وحبها للوطن، لكن العدوان كشف لنا الأقنعة التي تختفي تلك الوجوه وراءها، والتي لا تقل قبحاً عن العدوان وجرائمه. وكم تمنينا في هذه اللحظات العصيبة أننا لم نعرفها، لأنها شوهت الصورة الجميلة التي كانت مرسومة في أذهاننا.

كواليس العمالة
يضيف جحاف: أن من مميزات العدوان رغم قبحه وإجرامه وانعدام أخلاقياته، أنه فرّق بين الغث والسمين، وأن هناك من هو محسوب على الوطن ويعيش فيه، لكنه بعيد عن أوجاعه، فقلبه وجوارحه وهواه مع فناء الشعب وتهديم مقدراته، والدليل أنهم يهللون ويكبرون وينتشون مع كل جريمة تُرتكب في حق هذا البلد، وكأنهم ليسوا منه ولا يعيشون فيه، وإنما من كوكب آخر قدموا للفرجة على ما يحدث فيه من استباحه لكل شيء، معتبراً أن مثل هؤلاء يعيشون خارج اللحظة، مشبعين بالحزبية المقيتة التي انتزعت منهم الولاء الوطني، وشبّعتهم بالولاء الحزبي، وأفرغت عقولهم من محتوياتها الأصلية، واستبدلتها بخلايا لا تنبض إلا بالولاء للحزب وتوجهاته ونهجه الذي يعتبرونه الخلاص من كل شيء، لكنهم تركوهم في اللحظة الفاصلة، وذهبوا للنشاط الاستثماري في الملاهي، والمدن السياحية، والمنتجعات والتجارة، بعد أن حققوا كل هذه الثروات على حساب هؤلاء المغفلين، حسب تعبيره.

عديمو الإحساس..!
من كان ليصدق أن أعظم شعب، والذين أصبحوا أسطورة العالم في بسالتهم وإيمانهم وصمودهم وعزتهم.. من كان ليصدق أنه يوجد بينهم أشخاص عديمو الإحساس والضمير ومنزوعو الإنسانية؟! تساؤلات موجعة بدأتها الأستاذة أمة الملك الخاشب (كاتبة ورئيسة تحرير مجلة الهدهد)، مضيفة أنها لم تعني من باعوا الوطن، وخانوه، وجاهروا بخيانتهم، بل عن صنف يعجز اللسان عن وصفهم، وهم صنف (اللامبالين)، والذين يعيشون حياتهم الطبيعية كأن لا شيء تغير في هذا العدوان.. يشربون الشاي في المقاهي.. يقهقهون.. يتواصلون عبر وسائل التواصل الاجتماعي.. يرقصون ويغنون حتى في لحظات الغارات وفي اللحظات التي تنتزع فيها أرواح ناس مثلهم، ويصرخ فيها أطفال مثل أطفالهم، وتتناثر فيها أشلاء نساء مثل نسائهم، لكنهم لا يبالون..
تختم الخاشب: كأنهم أخذوا صك العهد من بني سعود بألا يمسوهم، وبأنه لن يحصل لهم شيء.. وهناك من أبناء العروبة والإسلام من يهتم لأمر المجازر والغارات، ويندد ويتعاطف.. ولكن هؤلاء مهما حصل يظلون كما هم لا يبالون.

فقدوا دورهم
ناشطو المقاهي والمقايل الذين يدّعون الحياد ورفض الحرب، فقدوا دورهم الذي كانوا يلعبونه في الماضي، وباتوا يشعرون هذه الأيام بالفراغ والضياع أكثر من شعور المرتزقة الذين يصطفون مع العدوان، بتراجع دورهم تجاه الوطن، ذلك ما يراه الأستاذ علي جاحز (محلل سياسي)، مضيفاً: هؤلاء المرتزقة العاطلون كما ينبغي أن نسميهم، كانوا زمان يمثلون الحقوق والحريات، ويحتكرون الرأي، والمنظمات، والصحافة، وجماعات الضغط، ولافتات الدفاع عن الأقليات، وفوق كل ذلك كانوا يرفعون راية الوطنية، ويلبسون أقنعة العشاق للوطن.. ولكن كل تحركاتهم ونشاطاتهم كانت ممولة تحت مظلة وسقف الوصاية، ووفق ما تمليه مشروعات النظام الامبريالي الأمريكي الذي يسيطر على كل المنظمات، ويجير الناشطين والحقوقيين لحسابه، ولا يسمح بأي نشاط خارج سيطرته، وبعيداً عن رقابته. مؤكداً أن معظمهم اليوم لا يعيشون خارج اللحظة بقدر ما يتحركون ضمن جبهتهم التي رسمت لهم.

غزو الوعي وتخديره
يضيف جاحز نقطة مهمة قد يغفل عنها الكثير: أولئك يشتغلون على التشكيك والمزايدة والتثبيط ومحاولة غزو الوعي المجتمعي وتخديره بالحديث عن السلام والحب والفن، والاحتفالات الجانبية الهامشية، لكي يبتعد عن التركيز والتفاعل مع جبهة مواجهة العدوان.


سموم كتاباتهم
يختم جاحز عن سموم وكتابات ومنشورات تلك الفئة: نعرفهم من سموم كتاباتهم ومنشوراتهم وتصريحاتهم حين يسخرون من القبيلي والقبيلة والغبر والمتبردقين، ويستكثرون على اليمني أن يكون قوياً وشامخاً ومضحياً بوجه العدوان، وبوجه تآمر عالمي قذر يستهدف اليمن، بل يستكثرون مجرد إدانة للعدوان عن استهداف أسرة أو أطفال أو مدارس أو عزاء أو عرس بغاراته، أو تهجير سكان مدينة أو قرية، ولا نتوقع منهم حتى إدانة الحصار الذي يستهدفهم في أرزاقهم كجزء من الشعب اليمني.. الناس يضحون ويبذلون أرواحهم في سبيل الدفاع عن الوطن ضد المحتل والغازي، وهذه هي قمة تجليات الوطنية والتضحية والفداء، وهؤلاء المرتزقة الاحتياط ممكن أن يتغنوا بقصيدة أو أغنية تتحدث عن الوطنية والتضحية تخص بلداً آخر أو ثقافة أخرى، لكنهم لا يمكن أن يتغنوا بما يجسده أبناء بلدهم من ملاحم وطنية وتضحيات على أرض الواقع، بل إن أفضلهم يرى الوطنية والتضحية مجرد تنظيرات وأساطير وخيال.

ورقة أخيرة..
إذن، تلك صورة لواقع مقاهٍ تخلّت عن الخدمات المتعارف عليها كتقديم خدمات النت، والشحن، والكهرباء، ومشاهدة المباريات وغيرها، وتحولت إلى مقاهٍ شكّلت بؤراً لأفراحٍ زائفة تم ضبط خلايا تجسسية بين جنباتها لصالح العدو، والأهم أن من ينشطون فيها فقدوا إحساسهم بوطن تنتهك كرامته على مرأى ومسمع من العالم.