«لا» 21 السياسي -
قبل عامين تقريباً كتب الكيميائي المصري الأمريكي رشاد خليفة ملخصاً عن اكتشافه المُسمّى «المُعجزة الحسابية في القرآن»، 
المبنية على الرقم (19)، ضمنه دراستين حول إعجاز الرقم (19) اكتشف خلالهما أنَّ الرقم (19) هو أساس لمعادلة تاريخية تتعلّق بتاريخ اليهود 
وزوال دولتهم، فكتب دراسة ثالثة وتوقّع من خلال حسابات رقمية ورياضيات عددية مستقاة من آيات «سورة الإسراء» أنَّ زوال «إسرائيل» عام 1443هـ 
الموافق لعام 2022، باستخدام منهج تحويل الأحرف إلى أرقام وفق نظام الجمل التاريخي القديم بترتيب «أبجد هوز» الرقمي.
وبغض النظر عن صحة ما ذهب إليه خليفة، فإن ما لفت انتباهي هو استمرار قراءات مراكز البحث الغربية لأسطورية عملية توازن الردع الثانية (19/ 9/ 2019) المستمرة، وتأثيراتها المباشرة على ما تشهده المنطقة اليوم من تداعيات خطيرة تشير إلى قرب زوال ثالوث الصهينة: أمريكا، كيان الاحتلال، والكيان الصهيوني.
في 19 أيلول/ سبتمبر 2019 نفذت القوة الصاروخية اليمنية عملية توازن الردع الثانية، استهدفت مصفاتي بقيق وخريص التابعتين لشركة أرامكو بعدد من الطائرات المُسيَّرة، وأصابت أهدافها بدقة عالية، وعطلت ما يقارب نصف إنتاج المملكة من النفط الخام، وفق تقارير وكالات إعلام عالمية.
ونشر موقع (Atlantic Council) الأمريكي حينها تقريراً حول التحولات الأمنية الكبيرة التي صنعتها المُسيّرات اليمنية بضرباتها، تحديداً على السعودية.
حيث أدَّت الطائرات المُسيَّرة الصغيرة والمُسلَّحة والمتطوِّرة إلى تقويض التوازن الأمني في منطقة الخليج على مدى السنوات القليلة الماضية، مِمَّا أدَّى إلى ظهور تهديدٍ جديد غير متكافئ، لدرجة تزايد الحديث والعمل على تعاون بين كيان الاحتلال وبعض دول الخليج لمواجهة هذا الخطر، بحسب الموقع.
متحدثاً عن عملية استهداف بقيق وخريص تحت عنوان «المعركة التي غيرت النظرة إلى الطائرات المُسيَّرة»، يضيف الموقع أن هجوم أرامكو في 19 أيلول/ سبتمبر 2019 كان هو الحدث الذي أظهر كيف يمكن أن تخترق واحدا من أكثر الدفاعات الجوية في العالم تقدماً، وتؤدي إلى أكبر اضطرابٍ في تاريخ إنتاج النفط العالمي، بين عشيةٍ وضحاها.
العنصر الفارق الذي أظهرته الطائرات المُسيَّرة في هجوم أرامكو أكثر حتى من معارك الطائرات المُسيَّرة التركية، حيث إن السعودية تمتلك أنظمة دفاع جوي تعد من الأفضل في المنطقة.
وعادة ما يتم التركيز على أن نجاحات الطائرات المُسيَّرة التركية قد جرت في حروب منخفضة الكثافة وضد جيوش متأخرة؛ ولكن في الحالة السعودية كان الأمر أكثر فجاجة؛ إذ يمتلك الجيش السعودي رادارات طيران كان ينبغي لها رصد الهجوم الوشيك، إضافة إلى امتلاكه أنظمة صواريخ باتريوت المتطورة، كما عجزت الولايات المتحدة -عبر وجودها العسكري في المنطقة- عن رصد أية علامات كانت ستمكنها من اكتشاف الهجوم المحتمل.
وبمرور الوقت منذ الهجوم على منشآت أرامكو أصبح من الواضح أكثر من أيِّ وقتٍ مضى أن التهديد الذي شكلته/ تشكِّله الطائرات المُسيَّرة اليمنية على المملكة السعودية ليس ذا تأثيرٍ مؤقَّت على الحرب على اليمن كما كان يُعتَقَد في البداية، بل تأثيره موجود كعنصرٍ أساسي على المستوى الإقليمي وقدرات الردع.
وفي تحليل لشبكة (CNN) الأمريكية بعد العملية، فقد اخترق سرب من الطائرات المُسيَّرة، التي كانت تحلِّق على ارتفاع منخفض ومحمَّلة بمتفجرات وصواريخ كروز، المجالَ الجوي السعودي، وضربت منشآت بقيق وخريص النفطية بدقة بالغة، واستغرق الهجوم 17 دقيقة فقط، وكلَّف أقل من مليوني دولار.
وأظهر المهاجمون للسعودية إلى أي حد تُعد بنيتها التحتية المهمة عرضة للخطر، رغم امتلاكها دفاعات جوية ذات تكنولوجيا عالية.
في الحقيقة تقول (CNN) إن الولايات المتحدة لم تبذل خلال عهد ترامب أي جهد لمساعدة السعودية، وحين تعرضت منشآت أرامكو في بقيق وهجرة خريص للقصف اليمني لم تطبّق واشنطن معاهدة الدفاع المشترك، ما زعزع ثقة الرياض بها بشكل كبير، وجعلها تعيد حساباتها وفقاً للأداء الأمريكي الجديد في عهد جو بايدن والقاضي بالانسحاب التدريجي من المنطقة والإقليم.
وقارن محللون تحدثوا للشبكة الأمريكية بين الموقف الأمريكي من غزو صدام حسين الكويت عام 1991 وبين رد الفعل -أو غيابه بمعنى أدق- عندما تعرضت منشآت أرامكو النفطية السعودية للهجوم، وبما يؤكد إن لم نقل عجز فانكفاء واشنطن عن المنطقة.
لا شكّ في أن قصف منشآت آرامكو وغياب الردّ الأمريكي قد عمّقا أزمة الثقة بين الرياض وواشنطن، ليدرك بنو سعود، كغيرهم من حكام أنابيب النفط، تراجع القوّة الأمريكية، وهذا ما يفسّر جرأة بعضهم على عدم الانقياد خلفها في معركتها مع روسيا؛ لكن ليس لقرارهم الخلاص من العبودية، وإنما للبحث عن سيّدٍ جديد في «تل أبيب» أو موسكو أو بكين، أو للبحث عن مكاتبة رقٍ مجددة وبشروط محسنة مع واشنطن.
ولنتذكر أنه في 19 أيلول/ سبتمبر 2016 نقل الخونة، بأمر واشنطن، البنك المركزي اليمني، مستحوذين يومها على 400 مليار ريال كانت مخصّصة لتغطية أجور نحو 750 ألفاً من موظّفي الدولة في مناطق السيادة.
وفي اليوم نفسه، 19 أيلول/ سبتمبر 2019، ضرب اليمنيون عصب الاقتصاد الاستعماري في أرامكو بقيق وخريص السعودية، وأوقفوا نصف إنتاج الأخيرة من النفط ومشتقاته، وكانت هذه بعض الرد على تلك.
أتذكر أني في ليلة من ليالي أواخر العام 2019 كنتُ ضيفاً في حلقة خاصة عن حصاد العام من برنامج «الحاصل» (الذي يقدمه أسعد الكامل وتنتجه مؤسسة الهادي وتعرضه قناة «المسيرة»)، وسألني المذيع: ما هو أهم حدث يمني هذا العام؟ أجبته: الهجوم على أرامكو بقيق وخريص السعودية في 19 أيلول/ سبتمبر. عاد ليسألني عن أهم حدث عربي، ثم عن أهم حدث عالمي للعام. وكانت الإجابة هي ذاتها، تلك التي رددت بها على السؤال الأول: ضرب أرامكو. وبرغم محاولة السائل تقديم خيارات أخرى للإجابة، إلا أنني أصررت على ما ذكرت، شارحاً وموضحاً مبرراتي وأسبابي، بل وقاطعاً شك اللحظة الراهنة تلك بيقين قادم التداعيات محلياً وإقليمياً ودولياً، ضارباً الوعد للمقدم والمشاهدين في الغد الآتي انتصاراً لليمنيين وانكساراً للمعتدين.
حينها لم أكن أضرب الودع أو أخط على الرمل، بل كانت مجرد قراءة متواضعة للحدث في متنه الاستراتيجي وعلى هوامشه التكتيكية قادتني في المحصلة إلى الجزم والاعتقاد بأن يوم 19/ 9/ 2019 هو اليوم الذي فصل فيه اليمنيون رأس الحرب عن جسد العدوان.
شعر بنو سعود وحكام الخليج يومها بالذعر القادم باليستيات ومُسيَّرات من صنعاء وبالفزع المتقادم كسيرات وكسيحات «باتريوت» أمريكية، وبدأ للتو البحث عمن سيعيد غطاء الحماية للرياض بعد أن خُيّل لها أن خيل أنصار الله تصهل عند الضواحي بينما الأمريكيون عاجزون حتى عن النباح من أجلها.
كان بايدن أكثر مراوغةً من ترامب في التعامل مع السعودية. فترامب أراد وأخذ المال والبترول ومنع روسيا والصين من أثداء الأبقار النفطية. أما بايدن فأراد كل ما سبق، مع الخروج من حسابات المنطقة والخسارة على السواء، لتأتي حرب أوكرانيا مانحةً «مبس» و»مبز» فرصة اللعب على سيولة الوضع الدولي وميوعة يساريي البيت الأبيض. وكان القفز ببراميل النفط وعليها والهز فوق قباب قصور الكرملين وكنائس سانت بطرسبورغ وسيلة ناجعة إلى حدٍّ ما لإثارة الجلبة داخل علب الكبريت الديمقراطية الجمهورية، وخارج جيتوهات السفارديم ومغتصبات الأشكيناز وعلى وقع ذكريات ضربات أرامكو وأبوظبي.
اليوم، وبعد الإعلان من بكين عن اتفاقٍ إيراني سعودي لإعادة العلاقات بينهما، يعاود يوم 19 أيلول/ سبتمبر 2019 حضوره كأهم أسباب وحيثيات توقيع الاتفاق، كما وتعاود اليمن إلى مكانها في واجهة الإعلام والسياسة شرقاً وغرباً.
وقد بررت صحيفة «كان» العبرية توجه ابن سلمان لإعادة العلاقات مع إيران من خلال الإشارة إلى الهجوم على أرامكو في العام 2019، بحيث «أصيبت السعودية بخيبة أمل من الولايات المتحدة، جعلتهم يقتربون من إيران».
وإلى السبب ذاته يخلص مايكل ماكفول، مدير معهد «فريمان سبوجلي» للدراسات الدولية في جامعة ستانفورد، وعباس ميلاني، مدير الدراسات الإيرانية بالجامعة نفسها، في تحليل نشرته مجلة «فورين بولسي» (foreign policy) الأمريكية. ويلفت الكاتبان إلى أنه في 2019 شن الحوثيون هجمات بطائرات بدون طيار إيرانية على منشآت لشركة النفط السعودية «أرامكو» داخل المملكة، بالإضافة إلى هجمات بصواريخ إيرانية في 2021، وآنذاك اكتفت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن باتهام إيران بدعم الحوثيين.
وهذا أيضاً ما خلص إليه تحليل نشرته صحيفة «وول ستريت جورنال» الأمريكية حول قرار الرياض توقيع الاتفاق، حيث أدركت السعودية عام 2019، عندما تعرضت لهجمات حوثية على مواقعها النفطية الرئيسية دون رد فعل أمريكي واضح، أنها لم يعد بإمكانها الاعتماد على الضمانات الأمنية التاريخية من الولايات المتحدة، التي يشعر ابن سلمان والقادة العرب الآخرون بالقلق من أنها تركز الآن بشكل أكبر على أجزاء أخرى من العالم.
وفي حوار مع الصحفي إسحاق شوتينر في مجلة «النيويوركر» (The New Yorker) الأمريكية، رأى جريجوري غوز، الخبير في شؤون الشرق الأوسط والعلاقات الدولية، أن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن لم تقدر مدى أهمية الهجوم من اليمن بطائرات مسيّرة في أيلول/ سبتمبر 2019 على منشآت نفط في السعودية، فقد كانت المرة الأولى التي تهاجم فيها «إيران» أراضي المملكة.
وأوضح أن عدم قيام الولايات المتحدة، حليف المملكة، بأي شيء ردا على الهجوم الذي تبناه الحوثيون، كان أمرا صادما للسعوديين، و»أعتقد أن بعض التواصل مع إيران بدأ في تلك المرحلة».
واستطرد: «أدرك ابن سلمان أنه قد لا يحصل على دعم من الولايات المتحدة ضد إيران»، مشيرا إلى أن واشنطن وحلفاءها الأوروبيين اكتفوا باتهام إيران بمساعدة الحوثيين.
في هذا السياق، يقرأ معهد دراسات الأمن القومي (INSS) التابع لجامعة «تل أبيب» الاتفاق وأبعاده ودوافعه بالنسبة للرياض.
في الدراسة التي أصدرها المعهد يقر كتّابها، وهم: يوئيل جوزانسكي، سيما شاين، وإلداد شافيت، وهم ممن تولوا مناصب استخباراتية عالية في الكيان الصهيوني، بأن الهجوم على أرامكو في أيلول/ سبتمبر 2019، الذي أوقف بشكل مؤقت حوالى نصف طاقة إنتاج النفط في المملكة العربية السعودية، مثل علامة فارقة بالنسبة للرياض من حيث إدراكها الضعف تجاه إيران، وخاصة بالنظر إلى ما اعتبرته الرياض «إهمالاً» من قبل إدارة ترامب، التي لم تقدم مساعدة عسكرية، مؤكدين أن الاهتمام الرئيسي للسعودية مرتبط بالرغبة في إنهاء الحرب ضد الحوثيين في اليمن، والضربات المباشرة التي تعرضت لها، مثل الهجوم على منشآت أرامكو.
ونشرت صحيفة «نيويورك تايمز» للصحافية فيفيان نيريم ما نقلته عن ابن سلمان، في مقابلة أجريت معه في عام 2019، أن الحرب بين السعودية وإيران ستؤدي إلى ارتفاع حاد في أسعار النفط، وتسبب الانهيار التام للاقتصاد العالمي، مما يعني أن الحل السياسي والسلمي أفضل بكثير من الحل العسكري.
وتؤكد فيفيان أنَّه قبل أسابيع فقط من تلك التصريحات، أدى هجوم صاروخي وطائرة مُسيَّرة على منشأة نفط سعودية كبرى إلى تعطيل نصف إنتاج المملكة من النفط الخام لفترة وجيزة.
وفي مقال للباحث في معهد «كوينسي» الأمريكي، تريتا بارسي، والمعارض السعودي المنفي خالد الجابري، منشور بمجلة «فورين أفيرز»، فإن القادة السعوديين شعروا بالخيانة من الولايات المتحدة عندما لم تتخذ أي إجراء ضد إيران بعد الهجمات التي طالت البنية التحتية النفطية للمملكة، وأدركوا أنهم لا يستطيعون الاعتماد على الولايات المتحدة دفاعيا، وبدؤوا الانخراط في الدبلوماسية المباشرة مع إيران، من خلال جهود الوساطة العراقية والعمانية.
ما سبق كان بعضاً من قراءات حدث يوم 19 أيلول/ سبتمبر 2019 كحدث رئيس أنتج فيما أنتج إعلان بكين بين طهران والرياض.


الخلاصة: دعوكم من دعايات طوابير النخاسة الإعلامية حول عودة اليمن حديقة خلفية للرياض، أو وضعها كملحق سري في الاتفاق ملزمٍ لطهران. صحيحٌ أن اليمن بات حجر الزاوية في تفاهمات الإقليم؛ لكنه الحجر الذي بنى سور التواصل الإقليمي، وهو ذاته الحجر الذي يمكن لليمنيين نزعه فينهار ذلك السور؛ فإما الاستقلال والسيادة والتحرر ووقف العدوان والحصار والشروع في الإعمار؛ وإلا فليشاهد العالم حرائق أرامكو من جديد.