القاضي محمد الباشق / لا ميديا -
تحدثنا في الحلقة السابقة عن سعة وعمق الرحمة، وأنها تشمل كل خير وكل نعيم وكل رزق في الدنيا والآخرة. الرضا، الذي هو مفرد كلمة الرضوان، هو سياج التنعم بالرحمة، فيكسب العبد بحياة الرضا الأمان والحصانة من كفران النعم، فلا شقاء يلازمه ولا ضنك يرافقه ولا سخط يصدر منه ولا خوف يعتريه ولا حزن يخيم في أيام حياته، لأنه عاش لله، مستعينا بالله، مقصده وهدفه ومطلبه ومبتغاه أن يرضي الله، ومن أيقن أن اختيار الله له خير من اختياره، وأن علم الله بما يصلح حال ومستقبل عباده هو الخير لهم لن يبطر النعم ولن يقنط ولن ييأس عند حلول البلايا، ولن تخور همته عند حلول النقم، ولن تزل قدمه عند منزلقات الفتن، لأنه يلهج بدعاء: «ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا»، ولأنه في كل أحواله يظهر فقره للغني ويطلب من الجبار جبر كسره. لذا فإن الانطراح على أعتاب العبودية ودوام الدعاء لله والتنعم بالتبتل والابتهال يجعله يوقن ويجد، بل ويشاهد أن عسر الحياة رافقه يسر، وأن محن الدنيا تخللها مجيء وحصول ووصول منح ربانية، ويشاهد لطف الله به وله وفي كل ما حوله.
وأكتب هنا رسالة إلى كل من أدخل نفسه جحيم الشقاء، وإلى كل من حبس نفسه في صحراء القنوط فتلفح وجدانه سموم اليائس، أن الحل والمخرج أن ننظر إلى الحياة بأنها فرصة لا تعوض ومزرعة لا بوار فيها، وأن ننظر إلى أيام حياتنا أنها رأس المال الذي معنا، فننطلق لهدف واحد هو رضا الله، حيث ونحن نشاهد النتائج من عمل لنيل رضا فلان أو فلان من الناس كما عمل قارون لرضا فرعون، النتيجة غرق معه في البحر، كما عمل ويعمل المرتزقة لخدمة أسيادهم، ولا أسيادهم أسياد ولم يحصل أحد على حياة الرضا، بل شقاء وبؤس وسخط.
أين كل من شهد زورا لظالم؟! هل تنعم؟! أين عمر بن سعد الذي باع آخرته وخسر كل شيء حتى حياته، رغم أنه قاد جيوش ابن زياد لقتل الإمام الحسين (عليه أزكي وأتم السلام)؟! خسر عمر بن سعد وخسر قائده ابن زياد، وما حال مرتزقة هذا العصر عنهم ببعيد. ونشاهد أن كل من جمعهم شر ووحد جهدهم واجتهادهم خسة الهدف ودناءة الوسائل، مصيرهم الفرقة والخزي، وكل من يظلم أو يساند ظالماً أو يبرر لظالم أو يرضى بفساد فإن حياته جحيم.
فالرضا من الله سبحانه وتعالى عطاء الله لمن صفت قلوبهم وصلحت أعمالهم وجاهدوا في سبيله. وفي هذه الآيات من سورة التوبة يبشرهم الله بعد الحديث عن آيات الجهاد وشرفه على أي عمل آخر من سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام، وجميع علماء التفسير بلا خلاف يقولون إن المدح بقبول جهاد وعطاء وبذل وتضحية المنعم عليه وله نعيم البشارة من الله برحمة منه ورضوان هو مولانا سيدنا علي بن أبي طالب (عليه السلام) جاءت له البشارة هنا ذاتا ولمن أحبه وعمل كعمله صفات مستمرة في اختيار هذه الآية البشارة برحمة من الله ورضوان يسع ويشمل جنات هنا في الدنيا وجنات في الآخرة. وشرحت آخر الآية هذا المعنى بقول الله سبحانه وتعالى: {لهم فيها نعيم مقيم}.
وإن شاء الله نكمل الحديث في الحلقة الخامسة. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله في كل لمحة ونفس.