قافلـــة الضيــــاع - بدر شاكر السياب -

أرأيتَ قافلة الضّياع؟ 
أما رأيتَ النازحين
الحاملين على الكواهلِ 
من مجاعات السنين
آثامَ كل الخاطئين
النازفينَ بلا دماءْ
السائرين إلى وراءْ
كي يدفنوا هابيلَ وهو 
على الصليبِ ركامُ طينْ
قابيلُ أين أخوكَ.. أين أخوك
جَمَّعَتِ السماءْ
آمادَها لتصيحَ كُوِّرَتِ النجومُ إلى نداءْ
قابيل أين أخوك
يرقد في خيام اللاجئينْ
السلّ يُوهن ساعديه وجئتُه أنا بالدواءْ
والجوعُ لعنةُ آدمَ الأولى وإرثُ الهالكينْ
ساواه والحيوان ثم رماه أسفل سافلينْ
ورفعتُهُ أنا بالرغيف 
من الحضيض إلى العلاءْ
الليل يَجهضُ والسفائنُ 
مثقلاتٌ بالغزاةْ
بالفاتحين من اليهودْ
يُلْقِينَ في حَيْفا مَراسيَهن..
 كابوسٌ تراهْ
تحت التراب محاجر الموتى 
فتجحظ في اللحودْ
الليل يجهض فالصباح 
من الحرائق في ضحاهْ
الليل يجهض فالحياةْ
شيءٌ ترجَّحَ لا يموت 
ولا يعيش بلا حدودْ
شيءٌ تَفَتَّحَ جانباهُ 
على المقابر والمهودْ
شيءٌ يقول هنا الحدودْ
هذا لكل اللاجئين وكل هذا لليهودْ
النار تصرخ في المَزارع 
والمنازل والدروبْ
في كل منعطفٍ تصيح 
أنا النُّضَار أنا النضارْ
من كل سنبلةٍ تصيح ومن نوافذ كل دارْ
أنا عجلُ سيناءَ الإلهُ 
أنا الضمير أنا الشعوبْ
أنا النضارْ
النار تتبعنا كأن مُدَى اللصوصِ 
وكلِّ قُطَّاع الطريقْ
يَلهثْنَ فيها بالوباء، كأنَّ ألْسنةَ الكلابْ
تَلتَزُّ منها كالمبارد
 وهي تحفر في جدار النور بابْ
تَتَصَبَّبُ الظلماءُ كالطوفان منه فلا ترابْ
ليُعادَ منه الخلقُ 
وانجرف المسيح مع العبابْ
كان المسيحُ بجنبه الدامي ومئزرِه العتيقْ
يسدُّ ما حفرتْهُ ألسنةُ الكلابْ
فاجتاحه الطوفانُ حتى 
ليس ينزف منه جنب أو جبينْ
إلا دجىً كالطين تُبْنى منه دورُ اللاجئينْ
النار تركض كالخيول وراءنا أَهُمُ المَغُولْ
على ظهور الصافنات؟ 
وهل سألت الغابرينْ
أَرَوَّضُوا أمسِ الخيولْ؟
أم نحن بَدءُ الناس كل تراثنا أنصاب طينْ؟
النار تصهل من ورائي والقذائف لا تنامْ 
عيونها وأبي على ظهري وفي رَحِمِي جنينْ
عريانُ دون فمٍ ولا بصرٍ تكوَّرَ في الظلامْ
في بركةِ الدمِ وهو يفرُكُ أنفه بيدٍ وكالجرس الصغيرْ
يرنُّ ملءَ دمي صداه، تكاد تومض 
كلُّ روحي بالسلامْ
حتى أكاد أراه في غَبَش الدماء المستنيرْ
عريانُ دون فمٍ كأفقر ما يكون بلا عظامْ
وبلا أبٍ وبدون حَيْفا.. 
دون ذكرى كالظلامْ
أسْريْتُ أعبُرُ تحت أجنحة 
الحديد به الزمانْ
من الحقول إلى المراعي فالكهوفْ
والأرض تُطْمَسُ من وراء ظهورنا كالأبجديةْ
الدُّور فيها والدوالي شاخصاتٌ كالحروفْ
فكأن أمسِ غدٌ يلوح وليس بينهما مكانْ
لم يُخرجونا من قُرانا وحدهنّ ولا من المدن الرخيّةْ
لكنهم قد أخرجونا من صعيد الآدميّةْ
فاليوم تمتلئ الكهوف 
بنا ونعوي جائعينْ
ونموت فيها لا نُخلِّف 
للصغار على الصخورْ
سوى هبابٍ ما نقشنا فيه من أسدٍ طعينْ
ونموت فيها لا نُخلّف بعدنا حتى قبورْ
ماذا نحطُّ على شواهدها؟ أكانوا لاجئينْ
اليوم تمتلئ الكهوف بنا تظلّل بالخيامْ
وبالصفيح، وقد تغلفهن للآجُرّ دُورْ
والنور كالتابوت فيها، 
ليس فيه سوى ظلامْ
بين الكهوف وبين حيفا 
من ظلام ألف عام أو يزيدْ
بين الكهوف وبين أمسِ هناك بئرٌ لا قرارْ
لها، كهاوية الجحيم تَلِزُّ فاها دون نارْ
تتعلق الأحداث فيها كالجلامد في جدارْ
لحداً على لحدٍ، 
أزيحَ الطينُ عنها والحجارْ
من يدفن الموتى 
وقد كشفوا وماتوا من جديدْ؟
من يدفن الموتى
ليولد تحت صخرة كل شاهدةٍ وليدْ؟
من يدفن الموتى لِئلّا يزحموا باب الحياة
على أكف القابلاتْ؟
من يدفن الموتى لنعرف أننا بشر جديدْ؟
في كل شهر من شهور 
الجوع يومئ يوم عيدْ
فنخفّ نحمل من تذاكرنا صليبَ اللاجئينْ
يا مَكْتباً للغَوْثِ في سيناء هَبْ للتائهينْ
مَنَاً وَسَلوى من شعيرٍ والمشيمةَ للجنينْ
واجعلْ له المطّاطَ سرَّهْ
وارزقْهُ ثدياً من زجاجٍ 
واحشُ بالإدريج صدرَهْ
وبأيِّ ما لغةٍ نقول فيستجيب الآخرونْ
ونُوْرِثُ الدمَ للصغارْ
أعَلمتَ حين نقول دارٌ أو سماءٌ.. أيُّ دارٍ
أو سماء تخطران على العيونْ؟
هيهاتَ ليس للَاجئينَ ولاجئاتٍ من قرار أو ديارْ
إلا مرابعُ كان فيها أمسِ معنى أن نكونْ
سنظلّ نضرب كالمجوسِ 
نَجُسّ ميلادَ النهارْ