علي نعمان المقطري / لا ميديا -

في عين العاصفة
لم تكن ثورة سبتمبر اليمنية قبل 6 عقود مضت حدثا عابرا في تاريخ المنطقة والوطن، وأياً كانت التقييمات التي راجت حولها سلبا أو إيجابا فإنها تظل أهم حدث في اليمن خلال القرن الماضي بعد ثورة الاستقلال مطلع القرن.
وتظهر خطورتها وأهميتها من خلال تلك المواقف المتباينة التي أعقبتها من قبل دول المنطقة والعرب والعالم، وكتلة المناهضة المنقسمة والتي تطورت من الحروب الكلامية والسياسية والدبلوماسية التي توزعت بين التأييد والإدانة وتعدتها إلى التدخل المباشر في ميادين الصراع والقتال والحرب على ساحة الوطن مع الثورة وقواها، أو ضدها وضد قواها، واستقطبت جميع القوى الدولية والإقليمية إلى التدخل والمعركة مباشرة، وكانت بمثابة اللغم المفجر لسدود الطغيان والاستعمار والاستبداد والظلم الذي طال أمدها واتسعت مصائبها حتى كادت أن تقضي على وجود الأمة وحياتها بعد قرون من الاستبداد والاستغلال والفساد والسيطرة الأجنبية.
لقد كانت كما شبهتها الصحافة العالمية "حجر الدومينو" الذي ما إن انطلق حتى حرك بقية الأحجار في الجوار الجيوسياسي الحساس لكل تغيير أو تبديل بعد عقود طويلة من الركود الآسن الذي خنق أحلام الأمة وشل حركتها وكتم أنفاسها وعطل نهضتها ومزق كيانها إلى أجزاء وكيانات ضعيفة، عاجزة كل منها عن الدفاع عن ذاتها وتلبية أبسط حاجياتها وتأمين حمايتها أمام الطامعين والطغاة والغزاة من كل جانب.
فابتليت أمتنا باستعباد الاستعمار الأجنبي واستبداد الدخلاء واستغلال الوكلاء والانقطاع عن تطور العالم والإنسانية والعزلة عنها، عزلة في ظل الأجنبي ثم عزلة في ظل الداخلي والوطني المستقل، فلا استقلال اكتمل ولا سيادة تحققت ولا وحدة أنجزت ولا حرية ولا تقدم في الوطن بعد قرنين من الجهاد والكفاح ضد الاحتلال والطغيان.
صحيح أن الاستعمارين العثماني والبريطاني كانا قد استنزفا الموارد والطاقات والقدرات الاقتصادية طوال قرنين، ولكن الخلل لم يكن في فقر الموارد المادية التي يحتاجها تقدم البلاد وإصلاحاتها الجديدة، وإنما تمثل الخلل في جمود الرؤى والأفكار المسيطرة على نخب الحكم والقيادة في مستوى الوعي الوطني الاجتماعي والديني لديها، فلم تكن ترى إلا ما كان الأجداد يرونه قبل قرون من حاجات وضرورات وتصورات، حتى أنهم قد تجمدوا عند تصورات العصور الوسطى ومفاهيمها وقواعدها في التفكير والنظر، ولم يعودوا يرون إلا ما رآه الأسلاف الراحلون وما وضعوه من أحكام وقيم لا يتجاوزونها إلى ما تفرضه العصور الجديدة من حقائق واحتياجات وقيم وقواعد وأساليب عيش وعلاقات دولية.

نفق مظلم
كانت اليمن قد دخلت في نفق مظلم منذ مطلع القرن الماضي. كان الاستقلال الإقليمي الذي تحقق على أيدي النخبة الدينية القبلية وبقيادتها يعتبر أزهى إنجازاتها الوطنية التحررية على مر العصور. لكن ذلك الإنجاز الضخم لم يتم إلحاقه بما يتوجب إلحاقه به لاستكمال الاستقلال لبقية اليمن المحتل، بل انحصر الاهتمام في الإمساك بالإقليم المستقل والانكفاء داخله والعجز عن حماية ما تعرض منه للاحتلال والتشظي والذود عن سيادته.
وأصبح النظام الجديد الحاكم كأنه قد ورث حكما أكبر من طاقاته على استيعاب مشكلاته ومتطلباته والعجز عن متابعة تحريره والدفاع والحماية لما هو محرر ومستقل فعلا.
لقد واجه أطماع الوهابية السعودية والبريطانية في الشمال والجنوب، ولكنه خسر أمامهما المواجهة العسكرية والسياسية وتكبد هزيمة مريرة اضطرته إلى الخنوع أمام غطرسة الوهابية السعودية وحلفائها البريطانيين المحتلين لجنوب الوطن.
كان التفريط بأجزاء من اليمن من خلال التوقيع على اتفاقية مذلة نعاني تبعاتها إلى الآن في وقت كان يحتمل تسوية متكافئة من طبيعة التوازنات الاستراتيجية القائمة آنذاك، فقد كان توسع العدوان على ساحل تهامة يوازنه تقدم وتماسك جيوش السيف أحمد في الشمال الجبلي على نجران وعسير الجبال وهو ما يعرض التقدم الذي حققه العدو للخطر والانحسار تدريجيا وفي حرب طويلة المدى كان السيف أحمد يرى جدواها وإمكانيتها، ولكن عقلية الحاكم كانت قد أصابها الوهن جراء ما يحيط به من اختراقات من قبل النخبة العليا في نظامه ومحيطه التي كانت قد مدت حبالها نحو الحدود الفاصلة شمالا وجنوبا لتقيم مع العدو محالفات خاصة ضد الحكم ثمنها كان خيانة الوطن والنظام والحاكم نفسه. هكذا أضحى الحكام أنفسهم خطرا على أنفسهم وعلى الوطن والدولة والسيادة والاستقلال بما يكابدونه من الحماقة والسذاجة السياسية وسوء التقديرات والحسابات، وبدل أن يقدم الحاكم نفسه. إلى إجراء تغييرات بنيوية ضرورية على نظامه على ضوء ما أنتجته الحرب وما أظهرته من اختراقات داخلية وخارجية يتعرض لها النظام راح يمضي الوقت بالتظاهر والاستقرار والوحدة السياسية وفتح الأبواب أمام الحركات التخريبية لتوفير ما يعتقده بسذاجة أنها الوحدة الإسلامية بين الاتجاهات الدينية المتعايشة وإبداء الحلم والحب والاستعانة بالخصوم والأعداء وتقريبهم وتمكينهم من مفاصل أمن النظام والبلاد.

قوى شيطانية رديفة الاستعمار وكيلته
راحت القوى الشيطانية المدعومة سعوديا وبريطانيا، بشكل مباشر وغير مباشر، تنسج المؤامرات وخيوط الفتنة الدامية التي أطاحت بالحكم والإمام وأدخلت البلاد في بحر من الدم والانقسام والتمزق.
وقبل أن يفيق الشعب وطلائعه الوطنية المخلصة إلى إصلاح الأوضاع والحكم راحت تلك النخب الشيطانية تتلبس لبوس الوطنية والتحرر والإصلاحات والحريات والدساتير الحديثة، وتقدم نفسها إلى الشعب بصفتها تمثله وتوقظه وتوجهه إلى الطريق السليم وتقوده إلى الحرية والدستور والحقوق الإنسانية، ولم يكن الشعب المحروم من المعرفة والثقافة السياسية الحديثة ليفقه ما خلف تلك المناورات والقوى التي كان كثير منها يقف بالضبط في ملعب الاستعمار والرجعية والاستبداد والاستغلال، وقد عقدت العزم على السيطرة على البلاد على دبابة الشعب المسكين التواق للحرية والتقدم.
كانت القوى الطامعة بالسلطة والثروة والقوة لذاتها ولطبقاتها العليا وأسرها الثرية المنافسة للحكم ومن داخله هي التي تتصدر المعارضة وترعاها وتوجهها دون علم الشعب.
كان النظام ضعيفا متهالكا يعجز عن مجرد الرد على حملات المعارضة وإعلامها من عدن والرياض ولندن والقاهرة، حيث انتشرت مراكز المعارضة. كان هذا يكشف عوراته ونقاط ضعفه ويشجع المزيد من الأطراف لاستهدافه وتقويضه لأهداف متعارضة.
كان القائد النشط لقوى التحرر الوطني ضد العثمانيين قد شاخ وقد أصبح فوق الـ80 عاما ولا شك أن طاقاته كانت قد استنزفت ولم يعد يمكنه النهوض بأعباء دولة تتسع وتكبر ويحيط بها الأعداء من كل جانب ووجهة، وهي غارقة بأسباب الفقر والتخلف، والمؤامرات تطلق عليها من كل زاوية، ولم يكن للنظام الملكي المطلق الذي أقاموه متأثرين بالواقع الإقليمي المحيط باليمن وبتاريخها الوسيط والقديم لم يكن له قواعد واضحة حول آلية ومدة الحكم وتغييره والإحلال محله.

الافتقار للمشروعية الإسلامية
 المذهب الزيدي العلوي الأساس المعتمد كمرجعية للحكم والحاكم كان يعارض نظام الملك ووراثة الحكم أسريا وعائليا في مبادئه السياسية ونظرية الحكم، وفي الوقت ذاته يلتزم بنظرية النسب الفاطمي العلوي للحاكم الإمام، لكنه لا يخلو من استثناءات مثل اختيار المفضول مع وجود الأفضل، ومع ذلك فإن الإمامة تبتدئ باختيار مجمع علماء الأعلى للأفضل في نظرها استنادا إلى تأييد القبيلة وشيوخها ورضاها.
كانت الإمامة في مبدأ ظهورها في اليمن منذ قرون طويلة قد التزمت بتقاليد وأعراف وقواعد تميزها، وأهمها لا ملكية ولا كسروية ولا قيصرية في الإسلام، وقد اجتمعت في الإمامة مناصب الدنيا والآخرة واستقرت الفكرة الإمامية لفترة طويلة بين القبائل الشمالية في حالة من الرضى والتصالح الداخلي، وقد استمرت أكثر من 12 قرنا وتجذرت في النسيج الاجتماعي اليمني في إطار من التعايش والتحاور والقبول المتبادل مع الآخرين من اتباع اجتهادات أخرى، فالصراع أول ما تسعر كان داخل الاتجاهات العديدة التي نشأت في الدعوة الواحدة نفسها، وكان هذا نتيجة نشوء مصالح اقتصادية ومادية اجتماعية متباينة مختلفة بين فئات المجتمع المتنامية المتعددة بتعدد التركيبات المجتمعية القبلية والإقليمية والفكرية الثقافية أدى إلى ظهور طبقات متعددة داخل المجتمع الواحد تجسدت في الانتقال من الحالة الشعبية القبلية العامية التي كانت تغلب على الأئمة وهم في بداية عهدهم في اليمن فقد كانوا واقعين في البداية تحت هيمنة شيوخ القبائل الكبار وكبار الملاك الزراعيين والماليين.

خلال ألف عام من التطور ولدت طبقة مالية اقتصادية جديدة من كبار الملاك تنتمي إلى الأرستقراطية الريفية والدينية تتكون من كبار قادة المؤسسة الدينية، وشيوخ القبائل وأثريائها، وتتنافس في المجال الاقتصادي، وتبلورت أكثر وأوضح بعد الاستقلال عن السلطنة العثمانية (التركية). وظهر مفهوم "السادة" ليس كانتماء نسب لآل البيت النبوي وإنما كطبقة عليا لها امتيازاتها الاجتماعية، حصرت مفهوم السيادة السياسية في الدولة بطبقة معينة وهم الأشراف، أي العلويين الأكثر نفوذاً وثراء وتملكا منهم، وليس سائر العلويين من آل البيت، وجرى مدها من المنتسبين للهاشمية الثرية وفي حكمهم وأصبح الزحام على المناصب العليا شديدا ومنحصرا، أي محتكرا لفئة معينة من الناس.
كانت تلك هي نواة التشكل الإقطاعي البيروقراطي الجديد، التي قادت دولة الاستقلال وسادت فيها، ومع انفصالها عن الهيمنة الإقطاعية القبلية القديمة وعزلها أكثر فأكثر عن المواقع العليا في الدولة الجديدة وتكريس الانعزال بأشكال ومظاهر عديدة.
فالإقطاعية كنظام وكطبقة تاريخية كانت قد وصلت إلى نهايتها متأخرة عن المسار التاريخي لها والذي سبقها بقرنين من الزمن، نتيجة تخلف البلاد والنظام وطبقات القيادة المجتمعية، وعلاقات الإنتاج والمستوى الاقتصادي الذي لم يتجاوز حالة الكفاف الطبيعي لأغلبية السكان الشغيلة والمنتجين، فكل فائض كان سيستولي عليه البيرقراطيون لأكثر من سبب أو دافع، فلا يبقى أمام المجتمع أي فائض مالي كبير يسمح بتراكم ثروات أولي على نطاق واسع في المجتمع، فالدول المتوالية على اليمن منذ أول الممالك الإسلامية المتعاقبة كانت تقوم على حلب وامتصاص الفوائض الاقتصادية، فلا تترك للفلاحين والمزارعين والحرفيين سوى أقل من الكفاف. وعمقت الحروب هذ التوجه العام، ثم الاحتلالات العثمانية فالاستعمار البريطاني عمقت الانقسامات من جهات مختلفة داخل الجماعات وخارجها لتشمل القطر كله. وأدى هذا إلى إعاقة عمليات الاندماج والتوحيد الاجتماعي الطبيعي التلقائي وحرف اتجاهاتها باتجاه مصالح السيطرة الأجنبية الجديدة التي دامت طويلا.
ومنذ الاحتلال العثماني الثاني كانت اليمن تخرج تدريجيا من الاقتصاد الإقطاعي الزراعي التقليدي إلى الاقتصاد الجديد بكل تشوهاته، فقد فرض الاحتلال التركي في الشمال أنظمة الإقطاع العسكري البيروقراطي القائم على سيادة النخبة العسكرية الإمبريالية القومية الأجنبية التركية، وقد وضع الأجنبي يديه على أراضي الدولة والأوقاف والأراضي المشاعة القبلية العامة، أي الملكية الوطنية العامة المشتركة التي تحولت إلى أيدي النخبة العسكرية ووكلائها المحليين، وساروا على طريق إنشاء طبقة هجينة جديدة نواتها كبار موظفي جهاز الاحتلال والمتعاونين معه.
وقد شكلت تلك الفئة أساس النخبة الاجتماعية الجديدة التي ورثت الاحتلال، وترك خلفه جهازه الإداري السابق الذي بناه على عينه وفي عهده، وكان ذلك ضمن اتفاقيات الاستقلال التي أبرمت بين المحتل والقيادة اليمنية، وحدث هذا خلال الاحتلالين الأول والثاني، فهي عملية استمرت منذ القرنين السادس عشر والسابع عشر ثم خلال القرن التاسع عشر. وهناك مدى زمني يصل إلى أكثر من قرنين من الاحتلال القومي العسكري جرى خلالها تأسيس وإعادة تركيب البنية الاجتماعية لصالح القوى السياسية الاقتصادية الاجتماعية المالية التي كونتها وعززتها الحقبة الأجنبية وبيروقراطيتها الحكومية والإدارية، حيث انتقلت الكثير من الأراضي والثروات العامة والخاصة إلى تلك الفئات الكولونيالية التي بقيت في المجتمع والإدارة، فلم يكن الإمام جاهزا لإدارة دولته المستقلة دون إبقاء الموظفين الأتراك والشيوخ الكبار المسيطرين الذين صنعهم الأتراك خلال وجودهم، كما لم يجر أي تغييرات حقيقية جذرية على بنية المجتمع الذي جرى هندسته خلال الاحتلال، وقد جرى دمج النخب التركية الإقطاعية مع النخب الارستقراطية التي تشكلت على البنية اليمنية لتكون نخبة هجينة مصالحها لذاتها الضيقة وولائها للخارج وليس للداخل، تمسك بمفاصل الجهاز الإداري والعسكري للدولة المستقلة.
ونشأت نخب كولونيالية الهوى راحت تزحف على الدولة ومؤسساتها المختلفة وتضعها تحت هيمنتها تدريجيا من قاعدتها الوظيفية والمالية وأهميتها الإدارية، وقد تمكنت عبر زمن طويل من إكساب الدولة التقليدية طابع الإقطاع البيروقراطي العسكري القبلي الفئوي، وعلى تلك القواعد الراسخة قامت المنظومة الحاكمة المُشكلة من الإمامة والنخبة المحيطة به بإدارة الدولة، فالبيروقراطية الإدارية هي التي أمسكت مفاصل الدولة وراحت تكرس مصالحها وتوجهاتها.
وتدريجيا جرى جذب النخبة الحاكمة نفسها إلى محيط البيروقراطية والتشارك معها في الكثير من المصالح والتماهي معها أحيانا وغالبا، فالأقلية الدينية العليا كانت من حيث الشكل هي من يحكم، ولكن في الواقع كانت تقف على رأس هرم طبقي مورث وهجين يسيطر على الدولة والمجتمع ويفصل الشعب والمجتمع عن رأس الدولة الإمام الذي صار ملكا عائليا الآن في خروج واضح على المبادئ التي قامت عليها الإمامة.
إن مفهوم الملك المطلق الحكم هو خيار لا علاقة له بالإسلام العلوي والزيدي والموروث الحسيني المحمدي القائم على مفهوم الحاكم العامي الشعبي البعيد عن الطبقية والتميز والاستئثار والأسرية والملكية، وهذا واضح في التراث الثوري العلوي.
وفي رسائل الإمام علي إلى ولاته وقادته ومساعديه ورجال دولته ما يفيض عمقا ووضوحا بالتزامه بحقوق الإنسان وإلزام قادته ورجال دولته ونفسه وأهله بالعيش بما يعيش به أواسط الشعب والناس والابتعاد عن المغريات الدنيوية ومحاربة اكتناز الأموال وتركزها في يد طبقة واحدة دون سائر طبقات المجتمع والأمة، وملاحقة المكلفين بالزكوات والضرائب، وتحري مصادر الأموال والغنى، فأين أئمة الملوك من هذا النموذج الثوري العملاق، الذي يقول: "والله ما أثرى امرؤ إلا بما جاع به فقير، ولو كان الفقر رجلاً لقتلته"، ويقول تلميذه أبو ذر الغفاري: "عجبي لمن لا يجد قوت يومه ولا يخرج في الناس شاهراً سيفه"، وكما أكد المعلم والتلميذ والأتباع النجباء كعمار بن ياسر والمقداد والأشتر النخعي على أن في المال حقا للمسلمين وعامتهم، كما أن جباية الضرائب من المزارعين والحرفيين والصناع تقابلها واجبات عامة تلتزم بها الدولة والإدارة وتنفذها وإلا بطلت الجباية من الأصل. فما الفرق بين الجباية الشرعية وبين الجزية الواجبة على غير المسلمين وهي إلزامية، وقد أبان الإمام علي جميع وجوهها جملة وإيجازا.
 
الخلط بين الإمامة العلوية الحقة وبين الادعاء
لقد أوردنا هنا ذلك الاستشهاد لكي نوضح أن خللا ما قد أصاب النخبة الدينية والسياسية العليا في البلاد منذ تولت الدولة والحكم، ونظرت إليه كملك عائلي بعد أن كان شوروياً وتوافقا وعدلا ورحمة ومساواة وعمارا وتقدما وحكمة، فما الفارق بين الولايات العباسية الجائرة التي حكمت باسم آل البيت النبوي وقرابتها للنبي الكريم بينما بعدت بما لا يتصوره عقل عن سنته وجوهره في الحكم والسيرة والسلوك، وسلموا الأمة الإسلامية كلها إلى أعدائها طوال ألف عام ومازالت الأمة غارقة في التبعية ولاستعباد والاستبداد والفساد والقهر؟!
الإمام علي لم يكن ملكا ولا مستبدا ولا إقطاعيا ولا رأسماليا ولا كانزا ولا جابيا، فقد عاش مبادئه ولم تختلف مسالكه عن إيمانه، ولا شطت طرقه عن قواعده، ولا خالف قوله فعله ولا ظاهره باطنه، ومثله بنوه وأهله وأحفاده العظام. 
لقد جنت الإمامة المتأخرة على العلوية الزيدية بإظهارها تناقضات بين الأقوال والأفعال، ففتحت الأبواب مشرعة أمام كل محق ومبطل، صادق وكاذب، مخلص ومشعوذ، فقد أضاعت بذلك الموازين، فأثارت اليأس والانقسام والقنوط والنفاق والغدر بالوطن والأمة.

التقسيم الطبقي الشرائحي للأمة
لقد أجهدت الإمامة الملكية الإقطاعية نفسها في عهودها المتأخرة في تقسيم الأمة إلى طبقات وفئات محددة لكل منها دورها وموقعها الذي لا تتعداه في المجتمع. من أين جاءت تلك الطبقية الإقطاعية الجامدة المقيتة؟!
لقد كان الإمام علي ومازال وليا على كل مؤمن ومؤمنة، بما كان عليه من الصلاح، وبما قدمه من جهاد، وبما كان عليه من أفضليات ومزايا، علماً وشجاعة ورحمة وعطاء وخلقاً وذكاء، ولا علاقة لذلك بالنسب الشريف.

تحددت الإمامة في الإمام علي بما احتازه من صفات تقترب من الأنبياء وسماتهم وأخلاقهم وعلومهم وقدراتهم وجهادهم، ولا علاقة لنسبه الشريف بالاختيار الإلهي النبوي بالتكليف، فالنسب الشريف وحده كان هناك من ينافسه عليه ويفوقه في قرابته للرسول من بني هاشم، والرسول نفسه حدد من يكون آل بيته، فقد أخرج كل من كان غير أهل الكساء الخمسة (علي وابنيه وفاطمة الزهراء)، ولم يفعل ذلك ليجعل منهم طبقة فوق الناس انطلاقا من العرقية والدم والنسل والسلالة تتحكم برقاب العباد وتتملكهم بقوة السيف والمال والترغيب والترهيب.
وإذا كانت هناك ضرورات مرحلية زمنية في بعض الظروف فهي ليست مطلقة أو دائمة، والمرجعية في النهاية لعامة المسلمين، وهو عقد اجتماعي بين طرفين هما الأمة والإمام، عقد ملزم حددته مبادئ الإسلام وقواعد النبي وسنته الصحيحة وإبداعات الإمام علي والإمامين الحسنين وثوراتهما ضد الجور والظلم.
أما الإمامة اليمنية الأخيرة فقد التزمت العبادات الدينية، لا شك في ذلك، ولكنها جارت في السياسات والممارسات الاجتماعية وتحولت إلى عصبية سياسية أقرب إلى عصيبة بني العباس وبني أمية منها إلى العلوية وإلى الرسول الكريم وإلى جوهر الدين قبل شكله.

اختراق الدين والدنيا
لقد فُتح الباب أمام كل الحاقدين على اليمن والأمة ليدخلوا من باب الإصلاحات ومن باب البحث عن الشريعة الصحيحة ومن باب الطبقية والسيادة والبحث عن العدالة والحرية والتقدم بمطالب حقيقية أريد بها باطل حينا وأريد بها حق أيضاً.
وليست مصادفة أن تم اختراق الوطن أول ما تم عبر الشخصيات الثقيلة الوزن من كبار علماء الدين والمذاهب وكبار الساسة والحكام، ولم تكن الخيانة قد جاءت إلا من طبقة الأمراء الكبار والشيوخ والسادة الأقحاح والقضاة والفقهاء والأثرياء وعلية القوم. إن خيانة الأمم والمبادئ والعقائد ليست خللا سياسيا أو فكريا أو إداريا أو سوء أنساب أو سوقية أو عامية، وإنما هي قبل كل شيء انحراف نفسي وأخلاقي وإيماني وانعدام مروءة وافتقار شهامة، وليست قلة علم أو ثقافة أو ضعف نسب، وإنما هي جشع وطمع وشهوات وأمراض وأنانيات وسعار دنيا ومناصب وتطاول وتكبر وتجبر ولصوصية وانحدار، ولم ينجُ منها إلا من رحم ربي. 
كل ذلك فتح الأبواب أمام وكلاء القوى الأجنبية، وأضحت الإمامة الملكية حقا مباحا لكل من غلب عليها بقوته وادعائه النسب ومناوراته وطبقته المهيمنة، ومن خلال الأمراء والعلماء والفقهاء تسللت القوى الإمبريالية والرجعية والاستعمار بأثواب الدين وأردية الرهبان والكهنة وبلاغة الشعراء والخطباء ومناورات السياسيين الفاقعة الألوان، وكلٌّ لا همَّ له في حقيقته إلا خدمة طبقته وجماعته وإرضاء أسياده ومقاسمتهم الوطن جسرا لوصوله إلى أغراضه.

وكلاء القوى الأجنبية
وكقوى وكيلة لقيت الدعم والرعاية الدولية من القوى الدولية والإقليمية الكبرى وتماهت مع مشاريعها وخططها ومصالحها وأهدافها، فقد كانت قادرة على التأثير والتنظيم والحركة والإقناع، في ظل تخلف النظام وبدائية وسائله وأساليبه الإدارية وانحدار ثقافته، فقد رفعت هي شعارات إصلاح النظام والحكم وإنجاز متطلبات الشعب وتطوره وتنميته في العصر الحديث، فقد كانت الشكوى مريرة من انعدام الطرق ووسائل الصحة وخدمات التعليم والاتصالات والمواصلات، وأدوات العمل ما زالت غارقة في البدائية التي لم تغادر استخدام المحراث الخشبي والبهائم العجفاء الجائعة في الزراعة ونقل الأحمال والانتقال من منطقة إلى أخرى، وما يصاحبها من المشقات وإهدار الطاقات والمتاعب والافتقار إلى المشاريع التي تستوعب القوى العاملة التي كانت تتسع في أعدادها، فلا تجد أمامها سوى الهجرة إلى خارج البلاد بحثا عن لقمة العيش، وهكذا ذهب الملايين خارج البلاد يبحثون عن لقمة العيش في بلاد الآخرين، مع ما يصاحب ذلك من المهانات والمشقات وإهدار الكرامة الإنسانية والوطنية.
وتحكي ذلك ألحان تلك الفترة بألم خاص يفيض بالشجن والأحزان، وترسم صورا مأساوية واقعية عن مأساة الإنسان اليمني وما يعانيه من أوجاع وأحزان وإفقار وغربة وحنين الغربة والتمزق وانسداد الآفاق أمام كل تطلع نحو الإصلاحات.
 
من قيادة التحرر الوطني إلى استبداد البيروقراطية 
كان النظام في الماضي مازال حركة تحرر وطني شعبية ريفية قبلية التركيب تعيش في قسم من البلاد عيش الكفاف واقتصاده الطارئ الحربي الاستثنائي والقاسي، وكان قد استغرق في تلك العادات والتقاليد القديمة التي تمسك بها بعد الاستقلال وكأنها التجربة الوحيدة التي أدركها وورثها عن الأسلاف وحافظ عليها وكأنها دين وعقيدة ونمط للعيش ونظام للحياة. وقد دل هذا على عقم فكر النظام وقلة حيلته أمام العصر وتحدياته الجارفة التي فجرتها الحركات الاجتماعية والتاريخية خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، وكأنه كان في غفلة عنها وعن نتائجها.
كان الحاكم ونظامه يقسو استخلاصا للضرائب والمكوس، ويتنمر استحلابا للمزيد منها كلما اتسعت رقعة مطالبه مع الوقت، بعد أن كف عن التفكير في استحداث وسائل ومصادر مالية متعددة تغني نظامه عن السؤال والحاجة عن طريق استغلال الثروات الضخمة الكامنة فوق الأرض وفي باطنها. كما رفض التفكير في إطلاق حركة استثمار وطنية إنتاجية زراعية وصناعية وحرفية تعود على النظام والأمة بالأرباح والفوائد والعوائد.
وقد أسلم الأمور الإدارية والمعاملات الشعبية اليومية إلى النخب التي ورثها من العهود التركية (العثمانية)، وخاصة طرق جباية الضرائب والعقوبات التي تستخدم كوسائل لتأديب المقصرين والمخالفين والعاجزين عن الإيفاء والدفع.
كان النظام قد تحول من حركه تحرر وطني شعبية إلى دويلة إقطاع جبائية بيروقراطية قاسية جدا لا تعرف الرحمة، على رأسها تقف النخبة الحاكمة التي تجمع في يديها سلطة الحكم والدين في وقت واحد، وصارت كل معارضة للحكم هي بالضرورة معارضة للدين السائد في نظر الحكام في المركز والأقاليم. 
وعلى الرغم من سلامة نواياه الوطنية التي أظهرها الحاكم في معارك التحرر الوطني مع العثمانيين، إلا أنه في النهاية وقع في حبائل وسلاسل ومطالب الطبقة البيروقراطية الحاكمة التي يقف هو على رأسها. ولكي تضمن هي توفير متطلبات النظام المالية ودولته فلا بد للحاكم أن يضمن هو أهداف ومصالح وتطلعات العائلات المالية الإدارية المتخمة التي يعتمد عليها حكمه، فقد أصبحت تلك الشبكة العنكبوتية الواسعة الانتشار تسيطر على كل مسامات المجتمع ونظام الحكم. والقاعدة السائدة تقول: "ما دامت هي توفر الأموال للحكم والنظام فلها أن تتولى جمعها بانتظام وبالوسائل المتوفرة مهما علا الصراخ والشكوى". وجرى استخدام الجند (الجيش) لتحقيق ذلك الهدف العام. وإذا اتسعت الحاجة للقمع والإجبار فيجب استخدام القبائل ضد القبائل الخارجة على الطاعة وعلى الالتزام بالدفع. ويحكي تاريخ حروب الدولة مع الشعب وقبائله أنها كانت كلها حروباً من أجل الجبايات، وجميع التمردات التي تفجرت في المجتمعات المحلية كانت في أساسها احتجاجات على مقادير الضرائب وأساليب تحصيلها القاسية. وكانت تلك الوقائع خلفية جميع الحراكات السياسية الوطنية والمدخولة على السواء، أي التي خلفها شكاوى حقيقية والتي استغلتها القوى الوكيلة للأجنبي، ففي الحالين كان هناك أساس واحد مشترك هو الظلم البيروقراطي الاجتماعي، أي طرائق المعاملة القاسية على الشعب القروسطية البدائية التي كان العالم قد ودعها منذ قرون طويلة، حتى سميت اليمن "متحف العاديات" تندرا ورثاء ودهشة. ولأن الحاكم قد عزل نفسه عن الشعب وعن أغلبيته فقد تولى دهاقنته سياسته والتحكم به وبحياته ومعيشته واعتصار دمه وعرقه لاستخلاص ما يمكن استخلاصه وحلبه من أموال وضرائب وزكوات ومكوس لا قانون يحكمها ولا تشريعات تنظمها وتحدد مقاديرها عدلا وإنصافا وحسب الطاقات والقدرات ومستوى الاستحقاقات الحقيقية، وإنما هي العشوائية والجزاف والاختيارية والتمييزية بين الجماعات والفئات والأقاليم.
كان هناك العديد من الأنماط المفروضة لتحصيل الجبايات والضرئب والمكوس، فهناك قبائل لا تدفع عينا ولا نقدا لكن عليها توفير الجند من أبنائها إلى جيش الحاكم بانتظام، وهناك قبائل تدفع الضرائب والمال نقدا فقط ولا يقبل أبناؤها في جيش الحاكم، وكان هناك تقسيم بين مناطق للعيش ومناطق للجيش، ولم تكن الدولة لجميع أبنائها، بل كانت تلك السياسة لها أهداف مقصودة أهمها أن تبقي الشعب في حالة شك ونقمة متبادلة بين فئاته ومناطقه وقبائله حتى لا يستطيع أن يتوحد. 
إن سياسة "فرق تسد" نظرية وقانون للحكم والسيطرة لم يبتدعها الاستعمار وحده، بل هي جزء أصيل من تراثنا الشرقي والإنساني، بل أضحت قانوناً لإدارة الجماعات والدول والأمم، يدعى قانون استغلال التناقضات والتباينات بين الجماعات والأفراد وتأجيجها لضمان استمرار السيطرة على الجميع، مما جعل الجميع بحاجة دائمة إلى النظام القاسي الذي يكرهونه.