هيثم خزعل - كاتب لبناني -

في معرض ردِّه على انسحاب الجيش السوري من لبنان عقب اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري عام 2005، أذكر أن النائب عن حزب البعث العربي الاشتراكي عاصم قانصوه نظَّم احتجاجا على الانسحاب مع بعض الشبان في البقاع، وكان يحمل عصا بيده حين سألته المذيعة عن الرسالة التي يريد إيصالها، فأجابها: "فشَّة خلق".
ما حصل في لبنان بالأمس القريب، من تكسير لبعض فروع المصارف واحتجاج أمام مصرف لبنان في ما سمي "ليلة المصارف"، لا يعدو كونه "فشَّة خلق".
لقد ساهمت أحداث الأيام الأخيرة تلك بالفرز بين الواجهة الليبرالية للحراك، أي نواعم الولايات المتحدة الأميركية من منظمات مدنية وشخصيات ومنصَّات إعلامية حاولت تحويل "الهبَّة التشرينية" لثورة تهدف إلى قلب الموازين السياسية في البلد، وتجيِّر خَراج الحراك الشعبي للأميركي في صراعه الإقليمي (والعالمي)، وبين محتجِّين على تركيبة النظام السياسي والأزمة المالية التي تعصف بالبلاد.
ولكن ذلك الفرز ليس نهائيّا، إذ إن التقاطع بين الطرفين استمر منذ بداية الهبَّة تحت عنوان هلاميّ هو "كُلهم يعني كُلهم".
فمن هي القوى الاجتماعية الفعلية في التظاهرات؟
الطرف الأول هو واجهةٌ جديدةٌ عصريةٌ للأميركي في لبنان؛ مشروعه يتلخص بإعادة إنتاج التبعية للغرب، والانخراط في مشروع واشنطن الإقليمي بركائزه الثلاث: دول الخليج ومصر و"إسرائيل". وهذا الطرف هو واجهة واشنطن الجديدة في لبنان التي تقتضيها المرحلة.
بعد الضرر الجانبي الذي أصاب حلفاءها من السياسيين التقليديين بجريرة الشعار الهلامي للتظاهر "كلهم يعني كلهم"، نجحت واشنطن بإزاحة هؤلاء من المشهد وإجلاسهم على الرف، ووجَّهت بوصلة التظاهرات باتجاه الانقلاب على القوى السياسية الوطنية (المناهضة للمشروع الأميركي) من خلال خوض واشنطن معركتها ضد خصومها بوجوه مدنية وأكاديمية وإعلامية "نظيفة" و"ناعمة"، وأدوات من جمعيات مموَّلة من الولايات المتحدة.
انتهت صلاحية "السياسي الفاسد"، وجاء دور الناشط المدني النظيف بشعاراته البرَّاقة: "مكافحة الفساد"، "استرداد المال المنهوب"... وبسحر ساحر، كان مطلب الجميع في "بوسطة التظاهر" هو حكومة تكنوقراط.
ذلك المصطلح، الذي تردد ببغائيّا لآلاف المرات في اليوم، يستبطن عزل القوى السياسية المناوئة لواشنطن ويرمي لمنعها من الإمساك بقرار البلد الفعلي في مرحلة يحتدم فيها الصراع الإقليمي والعالمي على تقاسم جغرافيا المنطقة ومواردها وعلى إعادة رسم خرائطها بالحديد والنار.
أُتبع مطلب حكومة التكنوقراط بمطلب إجراء انتخابات نيابية مبكرة تهدف لاستغلال لحظة الانهيار المالي للانقلاب على نتائج الانتخابات الأخيرة، التي أعطت الأغلبية النيابية للقوى المناهضة للأميركي، تمهيدا لعزل رئيس الجمهورية فيما بعد، والذي تم التصويب عليه بشكل استثنائي وتهشيم صورته منذ بداية التظاهر في ما يشبه عملية الاغتيال السياسي، والسبب أنه رافعةٌ سياسيةٌ للمقاومة، كونه الأقوى في الشارع المسيحي.
أما الطرف الثاني فيتشكل من كوكتيل هجين من يساريين وفوضويين وقوميين وناصريين وشخصيات وطنية مستقلة، ويستمد مشروعيته من حركة الاحتجاج ذاتها ووجوده فيها، لكنه لا يملك مشروعا، بل يكتفي بالاحتجاج دون تقديم بدائل.
إذا كان الطرف الأول يعوِّل على "قجَّة" واشنطن في الخليج لتعويمه في حال نجاحه في الانقلاب (وهو ما لن يحصل)، فإن الطرف الثاني مأزومٌ لأنه منسلخٌ تماما عن الواقع. فترى من في الطرف الثاني منقسمين فيما بينهم حول العلاقة مع سوريا بين مؤيد للثورة ومؤيد للنظام، وحول العلاقة مع إيران وروسيا وصولا إلى الحزب وحلفائه في الداخل، وتراهم يرفضون اتهامهم بالتقاطع مع أجندة واشنطن، لكنهم أيضا ضد خصوم واشنطن في البلد والإقليم... فهم ضد السياسيين وضد المصارف وضد واشنطن وضد خصومها!
بما يحتوي على تناقضات، يبدو هذا الطرف الأكثر هشاشة؛ فهو غير قادر على صياغة برنامج محدَّد ولا رباط أيديولوجيّ يجمع بين أطرافه ولا رؤية واضحة، فلا موقف من موقع لبنان في ساحة الصراع الإقليمي المتفجرة، ولا جواب عن مصدر السيولة التي يحتاجها البلد وكيف ستأتي.
هذه القوى، وبعضها قوميٌّ وبعضها أمميٌّ بالمناسبة، تتعاطى مع الكيان اللبناني كجزيرة معزولة، وتعتبر حلول الأزمة حلولا تقنية، وهي بمعظمها لا تقيم وزنا للجيوبوليتيك، وتنزع الحدث اللبناني من سياق الصراع الإقليمي لتقدم قراءة مبسَّطة للواقع.
تقاطَع هذا الطرف الهش، بتناقضاته، مع الأحزاب الكيانية اللبنانية، اليمينية والحليفة لواشنطن تاريخيّا للأسباب التي بيَّناها، وتقاطَع مع الطرف الانقلابي الأول تحت عنوان "مكافحة الفساد"، أي أنه، وببساطة، ركب بوسطة الولايات المتحدة التغييرية.
كان هجوم هؤلاء على المصارف وتكسيرهم بعض فروعها سببا للإدانة من قبل الطرف الأول الذي يعمل على انتقال سلس للدولة بمؤسساتها بما فيها المصارف إلى المركب الأميركي.
المبكي في ما جرى أن الهجوم على المصارف، بما هي أداةٌ محليةٌ للنظام المالي العالمي مرتبطةٌ بشخوص نخبها وحاكم المصرف المركزي ونوابه مباشرة بوزارة الخزانة الأميركية، كان تعميقا للحصار المفروض على البلاد من الأميركي لإسقاطها وإخضاعها. فكما ضحَّت واشنطن بأكراد سوريا، ونحَّت حلفاءها من سياسيي لبنان جانبا، قد تضحي بطبقتها المصرفية الصغيرة لإسقاط البلد. هذه السوريالية تجعل من الطرف الثاني طرفا كاريكاتوريّا في الصراع الدائر.

هل من حلول في الأفق؟
التحالف المناهض لواشنطن في لبنان مأزومٌ في خياراته؛ إذ استطاع إفشال الانقلاب، ولكنه حتى اليوم لم يبلور مشروعا بديلا يقطع مع الهيمنة على البلد ويفك لغز الحصار المضروب عليه، ولم يشرح لقاعدته الاجتماعية طبيعة المعركة والصراع الدائر في البلد بوصفه جزءا من الصراع في الإقليم ككل.
خيارات هذا الطرف في المواجهة لم تنضج لأسباب تتصل ببنية القوى الكيانية الموجودة فيه، ولعدم وجود بدائلَ عن النظام المالي العالمي الذي تمسك به واشنطن، إذ إن البديل عن خروجك من النظام المالي العالمي أو حتى تجرُّئك على المس بأدواته المالية المحلية، من حاكم مصرف لبنان ونوابه إلى أصغر مصرفيّ، هو تحويلك إلى "فنزويلا جديدة".
دفعُ الصراع إلى أقصاه لن يفيد واشنطن، ولا هو يفيد خصومها، والمراوحة تأكل من رصيد الجميع بانتظار حسم الخيارت التي ترتبط بمشهد معقد وانفراجات تبدو بعيدة تتعلق بالصراع في الإقليم (والعالم).
بعد الحرب الأهلية التي استمرت في لبنان خمسة عشر عاما، لم تنضج التسوية السياسية فيه، ولم يسيطر النموذج النيوليبرالي على اقتصاده، إلا حين سقط الاتحاد السوفييتي وصاغت واشنطن قواعد اللعبة في الإقليم من العام 1990 إلى العام 2005. ولكن منذ الانقلاب على القواعد القديمة الحاكمة للعلاقات في الإقليم، بدءا من اجتياح العراق ولغاية اليوم، يعيش لبنان مرحلة من انعدام الاستقرار السياسي، يُضاف إليها اليوم انهيارٌ ماليٌّ كبير.
في هذا الصراع الإقليمي المحتدم، والأزمة التي تهدد بنيان الكيان برمته، ثمة من لم يتعلم بعد من تجارب الماضي، وثمة من يعتقد أن كارل ماركس قد بعث من جديد في شوارع الحمرا.



* كاتب لبناني.
صحيفة "ميسلون" الإلكترونية
2020/01/16